نعمة اللحظة الراهنة

TT

من المفترض أن عبارة «فلتنعم بأوقات مثيرة» لعنة صينية قديمة، ولكني لا أجد ثمة دليلا على أن هذه المقولة صينية في أصلها، أو أنها مقولة قديمة. ولكن أحد الاستشهادات الأولى التي يمكن الاعتماد عليها قد ورد في قصة قصيرة تعود إلى عام 1950، كتبها مؤلف الخيال العلمي البريطاني إريك فرانك روسل، الذي كان يكتب تحت اسم دانكان مونرو، والذي كان يقتبس اللعنات، ثم يضيف: «لم تعد هذه لعنة، بل هي نعمة».

تلك هي الطريقة المتفائلة التي يمكن أن ننظر بها إلى هذه اللحظة غير الطبيعية، ففي الوقت الذي نحتفل فيه بعيد الشكر ونقبل على موسم الإجازة، نشعر كما لو كانت بلادنا على طَرَف مُسْتَدَق أو حافة أو شفير. صحيح أنه إذا أصبحت الأمور أكثر «إثارة»، فمن الممكن أن يحدث انهيار عصبي جماعي. ولكن، مع حالة القلق، فإن ثمة إحساس بأن هناك فرصة نادرة، فرصة للظهور أفضل مما كنا، سواء كان على المستوى الاقتصادي أم السياسي أم الاجتماعي. من السهل عليك أن تقول، سيرد الكثير من الناس، ولديهم وجهة نظر. لقد تسمرت في مكاني مثل أي شخص يشاهد سوق المال تفقد نصف قيمتها تقريبا، ثم بعد ذلك تستعيد بعض مكانتها، ثم تتذبذب بصورة كبيرة لدرجة أن مكسب أو خسارة 200 نقطة في مؤشر داو جونز قد أصبح التعريف الجديد ليوم ممل. وقد خسرتُ بعض الأموال، ولكني لم أعان بنفس الطريقة التي عانى منها البعض، فليس لدي رهن عقاري بسعر فائدة يمكن تغير قيمته، ولا منزل «تحت المياه»، وما زالت الشركة التي أعمل بها تمارس نشاطها.

وفي الواقع، عليّ أن أتعلم كيف أتكيف مع الواقع الاقتصادي الجديد. وفي الوقت الحالي، أعرف أنه لا توجد قاعدة في الاقتصاد تقول بأن أسعار العقارات يجب أن تظل في ارتفاع مستمر، وأعلم أن المنزل لا يعد مصرفا يمكن الاعتماد عليه بصورة كبيرة وأن «الائتمان» ليس وعاء غير محدود من الائتمان المتاح بفائدة بسيطة، وأنه أن يكون لدى المرء القليل من المال في حساب ادخاري أفضل من أن يتناول المرء عقارا لينعم بنوم هانئ ليلا.

والأكثر أهمية هو أننا تعلمنا جميعا أن عقد الصفقات من أجل عقد الصفقات فقط، على مدى عقود، وهو النشاط الأكثر كلفة في أميركا، لا يدر في الواقع ثروة باقية. وهناك طلاب في المرحلة النهائية في هارفارد وبرنستون دائما ما يحصلون على درجات عليا، قد خططوا للالتحاق بالصناعة المصرفية الاستثمارية قبل أن تنهار الصناعة كلية، كما قد يذهب بعض فائقي الذكاء في الوقت الحالي للعمل في صناعة السيارات وإنقاذ ديترويت، وربما يقوم البعض باختراع وتصنيع وتسويق «التقنية النظيفة» التي تغير العالم، وربما يلتحق البعض بمؤسسة «بيس كوربس» الطوعية الفيدرالية، وربما يصبح البعض مدرسين. وعلى المستوى السياسي، فإن الأميركيين أقل انقساما مما كان عليه الحال على الأقل منذ فترة الرئيس الاميركي الأسبق رونالد ريغان، وربما يكون أطول من ذلك. وأعلم أن الكثيرين سوف يشككون في هذا التأكيد، ولكنني سأدافع عنه. ولا يكتسب هامش الفوز الذي حققه باراك أوباما، بنسبة 53 في المائة إلى 46 في المائة، قوته من كونه انتصار كاسح في انتخاب شعبي. ولكن ينظر إليه على ضوء عوامل أخرى، فقد كانت المكاسب الانتخابية التي حصل عليها أوباما، والتي كانت كاسحة، ومكاسب الحزب الديمقراطي في غرفتي الكونغرس، بمثابة تفويض واضح للعيان. وليس ثمة جدوى من مناقشة ما إذا كان لدينا حكومة وسط ـ يسار أم وسط ـ يمين، ولكن النقطة الوسطى في الطيف السياسي في البلاد هي وسط ـ وسط.

لقد تولى رونالد ريغان منصبه الرئاسي في وقت كان فيه الطيف السياسي بأكمله يتجه ناحية اليمين، وقام هو بدفعه بصورة أكبر في هذا الاتجاه، وانتخب أوباما في الوقت الذي يتحول فيه الطيف السياسي مرة أخرى إلى اليسار، وسيسعى هو إلى إعطائه دفعة مساعدة. وسواء كنت ممن صوتوا لصالح أوباما أم لا، فمن الصعب أن تشاهد هذه المرحلة الانتقالية المتساوقة بصورة واضحة وتشكك في أن الرئيس المنتخب يفهم ويستمتع بالإمكانات العظيمة في اللحظة الراهنة. ولا يعني ذلك أنه سوف ينجح، ولا يعني ذلك بالتأكيد أنه لن يرتكب أخطاء. ولكن يعني أن لديه أفكارا عظيمة وخططا كبرى، صحيحة أم خاطئة، وأعتقد أن معظم المواطنين يدركون بديهيا أنه لا وقت للصغار.

كما أن التغير الاجتماعي الذي قد بدأ للتو، يعد ـ في الكثير من الصور ـ أكثر وضوحا وأعمق من أي شيء آخر على الصعيدين السياسي والاقتصادي. وقد قالت لي إحدى الشخصيات المحافظة المؤثرة أخيرا أنها في الواقع كانت تريد أن يفوز جون ماكين، وعندما ظهر أوباما مع أسرته ليلة الانتخابات «ذهب كل ما كانت ترجوه». ولم يكن ذلك يعني أنها قد تخلت عن مرشحها أو عن فلسفتها المحافظة، فقريبا سوف تكتب نقدا قويا ذكيا لسياسات الرئيس الجديد، ولكنها أدركت الدلالة الكبيرة التي يتضمنها انتخاب أول رئيس أفرو ـ أميركي، وأنها قد تأثرت بذلك كثيرا.

سيتبين ذلك في الكثير والكثير من الصور والأشكال على مدى الأعوام الأربعة المقبلة. فانتخاب أوباما جعل من الولايات المتحدة بلدا مختلفا، «اتحادا أكثر كفاءة». وبالنسبة لي، فأنا أشعر بالنعمة أن أحيا خلال هذه الأوقات المثيرة.

*خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»