الصحافي والرئيس.. حوار النعال

TT

تغنى العرب بالصحافي الذي رمى نعله في وجه الرئيس الأمريكي بوش.. دبجت القصائد في مدحه، وعرضت مئات ألوف الدولارات لشراء الحذاء المرمي، واعتبر الشاب بطلا قوميا من صنف عتاة المقاومين، أعاد للأمة كبرياءها وشرفها بهذه الفعلة غير المتوقعة.

ما لا يدري أخوتنا في المشرق العربي أن احد أبناء موريتانيا سبقهم لمثل هذه الغزوة المثيرة، حدث هذا عام 1972، عندما رمى طالب في الثانوية بيضة على معطف الرئيس الفرنسي جورج بومبيدو، الذي كان يومها في موكبه الرسمي يزور احد معالم العاصمة نواكشوط رفقة الرئيس الراحل المختار ولد داداه. وكما حدث هذه المرة، وان اختلف السياق، تغنى شعراء بلاد شنقيط بالشاب البطل المغوار.

بيد أن ما يثير الاهتمام في قصة الصحافي العراقي منتظر الزيدي هو أنها المرة الأولى التي يعتدي فيها صحافي على رئيس دولة، بينما كان العكس مألوفا في عالمنا الثالث. وقد تعود الرئيس الزائري السابق موبوتو سيسكو على ضرب الصحافيين بحذائه، وأحيانا بعصا المارشال، التي لم تكن تفارقه، أما رئيس وسط أفريقيا بوكاسا، الذي تسمى بالإمبراطور فقد قيل انه كان يطبخهم في قدره، في حين يعتبر اغتيال الصحافيين واعتقالهم مشهدا مألوفا في عالمنا العربي، بدءا بجميل مروة وانتهاء بجبران التويني.

ومع ذلك فان علاقة الصحافي بالحاكم أكثر تعقيدا وتنوعا من صلة الضرب المتبادل بالأحذية. وعلى الرغم من اختلاف السياقات والساحات، يميل الحاكم في الغالب إلى استمالة الصحافي وصداقته، أو اتقاء شره ومداراته، سواء تعلق الأمر بالبلدان الديمقراطية العريقة التي تؤدي فيها الصحافة دور السلطة الكاملة المستقلة، أو في البلدان الجنوبية التي عادة ما يكون العمل الصحافي فيها واجهة للنشاط السياسي المبطن أو المعلن.

وإذا كان لكل الحكام أصفياؤهم من الصحافيين، الذين يتحولون أحيانا إلى اقرب الأصدقاء، بل إلى شركاء فعليين في القرار، فان بعض الزعماء تميزوا بقدرتهم على التعامل مع وسائل الإعلام، بل مارسوا أحيانا العمل الإعلامي وأغرموا به. ولقد اشتهرت في الحالة الأولى علاقة الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر بالصحافي المعروف محمد حسنين هيكل، الذي تحول تدريجيا الى موضع سره وشريكه الأول في الرأي والقرار. ويمكن أن نمثل في الحالة الثانية بنموذج الرئيس السادات، الذي تولى رئاسة تحرير بعض صحف الثورة، وكان يعتبر نفسه صحافيا محترفا، كما كان مغرما بالمؤتمرات الصحافية والحديث للإعلاميين، الذين اتخذ بعضهم أصدقاء وندماء مقربين، لعل أشهرهم زميلنا أنيس منصور، الذي لم يفتأ يزودنا منذ رحيل السادات بطرف علاقته معه.

ويذكر الصحافي الفرنسي الكبير جان دانيال، الذي كان من أصدقاء الملك المغربي الراحل الحسن الثاني، أن الملك قال له انه تراوده دوما فكرة امتهان العمل الصحافي، الذي كان يرى فيه الأسلوب الأرقى من النشاط الثقافي والكتابة الأدبية.

وإذا كانت الصحافة الانغلوساكسونية قد اشتهرت بأسلوب التحقيق المستفيض والقاسي أحيانا على الساسة، مما ترك الأثر السيئ على العلاقة بين الحكام والصحافيين، فان التقليد الفرنسي تميز إجمالا بالصلة الوثيقة بين الرؤساء والصحافيين، بحيث يمكن القول إن الدوائر الإعلامية تشكل أحد مراكز الطبخات السياسية في فرنسا. وقد اشتهرت في هذا الباب علاقات الرئيس فرانسوا ميتران بالوسط الإعلامي، إلى حد انه لم يكن يجري مقابلات في التلفزيون العمومي إلا مع النجمتين الشهيرتين، ان سان كلير وكرستين اوكرنت، وهما في الآن نفسه زوجتا اثنين من وزرائه (دومنيك ستروس كان وزير المالية وروبير كوشنير وزير الشؤون الاجتماعية). ويعتقد أن الرئيس الحالي نكولا ساركوزي لم يصل لسدة الحكم إلا من خلال صلاته الوطيدة بالمركب الإعلامي، الذي يتحكم من خلال اللوبيات المالية والأمنية في أهم مؤسساته، على غرار رئيس الوزراء الايطالي برلسكوني، الذي يملك اغلب الهيئات الإعلامية في بلاده.

كان الصحافي المغربي الراحل باهي محمد، هو الذي أسس الصحافة العربية في الجزائر بعد استقلالها، وقد ربطته علاقات حميمة برئيسها هواري بومدين. وفي سنة 1975 طلب منه بومدين مساندة جبهة البوليزاريو والانضمام لحكومة الجمهورية الصحراوية، التي اعلنت من الجزائر فرد عليه من باريس بمقالة عنونها بالآية الكريمة «اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون»، وختمها بالقول إن قلم الصحافي اشرف له من نعل الحاكم.