قبور تبكي وقبور تضحك

TT

من المعتاد لشواهد القبور عندنا أن تستجدي دموع المشاهد. أتذكر منها شاهد قبر في بغداد يقول:

يا قاري كتابـي ابك على شـبابي

بالأمس كنت حيا واليوم في التراب

وكان غيرها أكثر درامياً وسريالياً يقول: «يا دود، يا دود! كل لحمي وعظمي وخلي عيوني السود!» ولا شك أن أكثرنا يتذكر ما أوصى به أبو العلاء المعري في أن يكتبوا على قبره هذا البيت الشهير:

هذا ما جناه أبي عليَّ وما جنيت على أحد

ولم تكتف الشواهد في مقابرنا على استجداء الدموع بل وطفقت تستجدي حتى الصلوات بما تحمله في أعلاها من سورة «الفاتحة».

غير أنني وجدت أن كثيرا من شواهد القبور في الغرب تحاول أن تدغدغ القارئ وتضحكه. كان منها ما أوصى به الممثل الكوميدي سبايك مليغان الذي طلب أن يكتب على قبره: «هاك انظر! ألم أقل لكم أنني مريض»؟!

بيد أن الكنيسة الكاثوليكية رفضت كتابة ذلك على قبره واعتبرته سخرية غير لائقة بالموت. اضطرت زوجته إلى ترجمة الكلمات إلى اللغة الغيلكية الايرلندية ونقشها على الشاهد. والظاهر أن القس لم يكن ملما بهذه اللغة.

سافر السيد أحمد جبر، أحد المعلمين العراقيين، إلى فرنسا ونزل فيها بمدينة صغيرة في الالزاس. وكأي عراقي أصيل ذهب فورا لزيارة مقابر المدينة، فرأى شاهدا يقول: هنا يرقد الكاتب الكبير فرانسوا امانويل. توفي عام 1935 عن عمر بلغ عشرين يوما». استغرب الأديب العراقي ذلك وتساءل، فقالوا له نحن في هذه المدينة نحسب عمر الإنسان بالأيام السعيدة التي قضاها في حياته. كل الأيام الأخرى نعتبرها هباء ومضيعة. هز الرجل رأسه ومشى. وفي الفندق التفت إلى زوجته، وقال لها لما أموت، اكتبوا على قبري: «هنا يرقد المعلم أحمد جبر، من بطن أمه للقبر».

إذا اعتبر القارئ الكريم هذه الحكاية مجرد نكتة، فالحكاية التالية واقعة حقيقية. انشغل برنارد شو أواخر حياته بالبحث عن بيت يناسبه. راح يطوف شتى المدن والقرى الإنجليزية حتى مر بقرية سان لورنس. ورغم أن برنارد شو لم يكن عراقيا، فقد بادر بزيارة المقبرة. وفيها وجد شاهدا يقول: «هنا يرقد هنري توماس. مات في عز شبابه في سن الخامسة والسبعين». تأمل الكاتب الكبير في ذلك، ثم قال لنفسه «القرية التي تعتبر الخامسة والسبعين سن شباب جديرة بالمرء أن يعيش فيها». فاشترى بيتا فيها وسكنه. وصدق حدسه وتفكيره، فقد عاش في سان لورنس حتى الرابعة والتسعين، ولولا أنه كسرت رجله لربما بقي حيا بيننا حتى اليوم.

لم يوص الكاتب الأمريكي الساخر مارك توين بنقش أي مزحة مضحكة على لوحة قبره ولكنه اشتهر بالتعليق على خبر وفاته. فقد كان حتماً من المحظوظين القلائل الذين قرأوا خبر نعيهم في حياتهم عندما نشرت إحدى الصحف خطأ خبرَ موته. فكتب إليها يوجه أنظارها إلى الخطأ قائلا: «لقد كان في نشركم خبر وفاتي بعض المبالغة».

www.kishtainiat.blogspot.com