الطواف الملاييني بين مكة المكرَّمة والمدينة المنوَّرة و«الطواف» البشَّاري ـ العوني بين دمشق وحلب

TT

كنا حتى اللحظة الأخيرة وعملاً بقاعدة تفاءلوا بالخير تجدوه، نتوقع آملين متفائلين أن يتخذ اُولو الأمر في الأمة خطوة ما على طريق تنقية الأجواء العربية ـ الإسلامية من الشوائب التي تكاثرت وغدت مثل الغيمة السوداء التي تحجب الشمس ولا تكون إيذاناً بهطول المطر. أما لماذا التوقع والأمل فلأن عيد الأضحى يحمل في طياته المعاني الجليلة الروحية والواقعية. فهو شكلاً استبدال دم الخروف بحياة إنسان لكنه ضمنا يعني أن الإنسان مواطناً عادياً أو استثنائياًً، محكوماً أو حاكماً، مُطالَب بالتضحية من اجل تصحيح لفظ صدر عنه في لحظة غابت عن المتلفظ الرجاحة والتبصر والحسابات الدقيقة، أو من اجل تصحيح أسلوب في التعامل لم يأخذ في الاعتبار كرامات الآخرين. بل انه مُطالب بالتضحية من اجل إنقاذ الوطن في حال أن الشخص الذي نعنيه كان من الممسكين بمقاليد السلطة ولا يمكن لقرار أن يأخذ طريقه الى التنفيذ من دون موافقته عليه سواء من خلال مذكرة تحمل توقيعه أو إيماءة من رمش عينيه تعني الموافقة.

ولقد حفلت الأشهر التي سبقت عيد الأضحى بالكثير من الهنات غير الهِّينات صدرت عن بعض مَن هم في القمة وتستوجب التصحيح. وهي لو صدرت عمن هم حول صاحب القرار أو في الحلقات الدنيا من المسؤولين لكان أمكن رتق الثوب تأديباً لمن قال، أو على الأقل تبرؤاً من هذا الخطأ، يقوله الرجل صاحب القرار الأول والأخير وينتهي الإشكال على قاعدة عفا الله عما مضى. لكن الذي قيل ولم يكن إطلاقاً من الهنات الهِّينات صدر من صاحب القرار وهنا تصبح المسألة أكثر تعقيداً ولا مجال لحل التعقيدات بغير كلام ودود يقال في مناسبة مماثلة وأمام جمع غفير يصفق الحاضرون بعد سماعه كما تصفيقهم في المرة السابقة.

قبل حلول شهر الصوم المبارك افترضنا مثل كثيرين أن التصحيح لا بد سيحدث على قاعدة أن الصيام ليس عن الطعام والشراب وإنما هو ايضاً عن التلفظ بما قد يسيء الى كرامات الآخرين. وعلى هذا الأساس فإن المتلفظ إساءة ربما يغتنم المعنى الروحي لشهر رمضان ويصحح لفظاً طال أمد عدم تصحيحه. لكن الشهر الكريم بدأ من دون تصحيح. وانتهى الصوم، والذي نتوقعه لم يحدث. وهذا جعلنا نصاب بخيبة أمل. لكن مع ذلك قلنا: هنالك بعد شهرين عيد الأضحى ولا بد من التصحيح في هذه المناسبة. ومع شديد الأسف فإن ذلك لم يحدث. وبدل أن تكون مناسبة الأضحى وموسم الحج هما خير ظروف لما يأمله المرء فإنه بينما كان الحجاج يطوفون ويسعون في بيت الله الحرام في مكة المكرَّمة ويتبرَّكون بزيارة مثوى الرسول، صلى الله عليه وسلم، في المدينة المنوَّرة ويبتهلون الى المولى عز وجل أن تلتئم الجراح ويتوحد الصف شاكرين من صميم قلوبهم الملك عبد الله بن عبد العزيز على سهره ورعايته ومتابعته الدؤوبة لكي يكون الثلاثة ملايين حاج على أفضل حال، كان الرئيس بشَّار الأسد الذي طالما توقَّعنا، ولا نزال، منه تصحيح لفظ غير مستحب في حق قائدين عربيين هما الملك عبد الله بن عبد العزيز والرئيس حسني مبارك لهما على سورية الأسدية أكثر بكثير مما لإخواننا أهل الحكم الايراني عليها، في حالة «طواف» و«سعي» بين دمشق وحمص وحلب و«رمي جمرات كلامية» مع ضيف شغوف بالمشاكسات المحرّمة في سورية على احد، هو الجنرال ميشال عون زعيم ثلث المسيحيين في لبنان وحَليف بعض الشيعة. وبينما كان الثلاثة ملايين حاج مسلم عرب وغير عرب ملفوفين بثياب الإحرام البيضاء بلون الثلج كان الضيف الذي جاء الى سورية في زيارة مكايدة ممهداً لها بسلسلة من التجنيات على السعودية، مغموراً ومتدفئاً بالعباءة الأسدية الجالس على كرسي رئيس الدولة المتسبب بهذا التكريم الاستثنائي بمشاعر صادمة وحاسدة في الوقت نفسه لعشرات من أهل السياسة في لبنان لم ينالوا هذا النوع من التكريم من سورية التي ولاؤهم لها يتساوى مع ولائهم للبنان.. أي بما معناه تقاسُم الولاء. ومن هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر الرئيس نبيه بري والأستاذ سليمان فرنجية المؤجَّل، على ما يجوز الافتراض، تكريمه، كما تكريم الجنرال عون، الى ما بعد ترؤسه خلفاً للرئيس ميشال سليمان مروراً لفترة وجيزة انتقالية بـ «الرئيس ميشال عون». وهذا مرتبط بمفاجأة الانتخابات البرلمانية ومن سيكون الفائز: 14 آذار الحريري ـ الجنبلاطي ـ الجعجعي أم 8 آذار العوني ـ الشيعي بجناحيه «أمل» نبيه بري و«حزب الله». ومثل هذه المفاجأة لم يُخفها الزعيم الدرزي وليد جنبلاط الذي لا يكف عن مقارعة الحكم السوري وبنسبة مدائحه في ما مضى لهذا الحكم، الذي وفيما الجمع اللبناني يأمل لو يتم تصحيح العلاقة اللبنانية ـ السورية يُطلق قذائف تبدد الأمل، كأن يقول عن الرئيس بشَّار ووالده الرئيس الراحل كلاماً لا يخدم في اي حال المسعى المأمول لحالة من العلاقة الوفاقية بين لبنان وسورية تكون نقيض علاقة الماضي وفي الوقت نفسه نقيض عداوة مستقبلية يمكن أن تحدث. وكلام «الرفيق وليد بك جنبلاط» المبايَع، كما الذي حصل للرئيس بشَّار، برئاسة الحزب التقدمي الاشتراكي الذي لا يترأسه غير جنبلاط الابن بعد الأب، والحفيد بعد الابن أطال الله عمر الأستاذ وليد، هو من النسيج نفسه لكلام الجنرال عون في سنوات المنفى الفرنسي بعدما أخرجه القصف السوري من القصر الجمهوري في بعبدا واستمر يقوله إلى حين تحالَف مع «حزب الله» بغرض أن يكون هو رئيس الجمهورية وهو منصب ظنَّه الجنرال عنباً وإذا به حصرم في حلب التي كانت محطة بارزة في «حَجِّه« السوري. وعلى هذا الأساس فكما أن الصدر البشَّاري اتسع لإضفاء محبة على الجنرال عون كفيلة بمحو عداوته لسورية، فإن صدر بشَّار حافظ الأسد ربما يتسع إزاء وليد كمال جنبلاط في حال أوجبت اللعبة السياسية على زعيم ثلاثة ارباع الدروز ان يستدير كثيراً كما استدارته في موضوع العلاقة مع «حزب الله» وبذلك تصبح عبارة سمعناها منه غير مستحبة وهي «الوحش نفسه والابن سر أبيه وسورية خطر علينا والانتكاسة كبيرة إذا خسرنا الانتخابات وان رستم غزالي سيحكم لبنان من ريف دمشق.. ».

لا كلام الماضي الحافل بالإطراءات الجنبلاطية للنظام السوري كانت مستحبة وإن كانت نتيجة الاضطرار ولا كلام الحاضر الحافل بالعداوة مستحباً لأنه يسقي غرسة الخصومة التي تنتهي شجرة عداوة.

نعود الى ما بدأناه لنؤكد على أن الوضع يتطلب أن يسأل كل صاحب قرار على مستوى القمة نفسه في حال كان السبب في توتر علاقة: لماذا قلت الذي قلته؟ أما وقد كان القول وحدث رد الفعل الغاضب والساكت على مرارة فلماذا لا أبادر وأصحح؟

وعندما يقول الملك عبد الله بن عبد العزيز أمام الشخصيات الإسلامية ورؤساء بعثات الحج الذين استقبلهم في قصره في مِنى «نحن اليوم بحاجة الى حوار الأمة مع نفسها، فالفرقة والجهل والغلو عقبات تهدد آمال المسلمين.. «فكأنما يخاطب في الدرجة هؤلاء الذين نعنيهم وأبرزهم الرئيس بشَّار الذي يا ليته كان من بين الذين استقبلهم الملك عبد الله شأنه في ذلك شأن الرئيس عمر البشير الذي أراد بأدائه فريضة الحج لهذا العام أن يقول لخادم الحرمين الشريفين أن من في استطاعته إنجاز «حوار الأديان» أن يفعل للسودان ما من شأنه تخفيف وطأة «هجمة العدالة الدولية المصطنعة» عليه. ولو أن الرئيس بشَّار جاء بعد كلام طيب يقوله في دمشق عن القائديْن العربييْن اللذيْن تجنَّى على مهابتهما ووقف مصافحاً الملك عبد الله بن عبد العزيز مع المصافحين في قصر مِنى بدل انشغاله بـ«طقوس» الاستقبال غير المسبوق للجنرال عون ومبايعته زعيماً لمسيحيي الشرق، لكان الشعب السوري بنسبة تفوق بكثير نسبة المبتهجين بـ«الحج العوني» ممتناً لرئيسه لأنه يضع البلد على سكة السلامة، ولكان الشعب اللبناني رأى أن الجار الرئيس اختار في نهاية الأمر لسورية الأمان والاستقرار وهذا مردوده طيب على لبنان. وكفى أبناء الأمة من المحيط الى الخليج متاعب الهيمنة والوصاية والغزو والانقسام.

وهذا هو المدخل الصحيح الى «حوار الأمة مع نفسها».