فسيفساء السياسة العربية

TT

يعمل النحات على إزالة شوائب الحجر من أجل استكشاف التمثال داخل الحجر. ويعمل المحلل على إزالة التفاصيل عن الأحداث السياسية من أجل استكشاف المنطق الذي يحرك الأحداث السياسية. حاليا يقوم النحات بإزالة الشوائب فلا يجد تمثالا. ويقوم المحلل بإزالة التفاصيل ولا يجد منطقا.

إسرائيل تحارب حماس في غزة. تريد أن تقضي عليها. لماذا؟ من أجل إنجاز اتفاق تهدئة معها!

مصر تضغط من أجل مواصلة الحوار الوطني الفلسطيني، حتى يكون نجاح الحوار مدخلا للتهدئة مع إسرائيل. ولا يمنعها هذا من القول إن التهدئة يجب أن تسبق الحوار.

الأردن يعتبر الوضع الفلسطيني جزءا أساسيا من أمنه القومي، ولكنه يبحث كيف يتجنب أية علاقة وحدوية مع الدولة الفلسطينية (إذا قامت) خشية أن تؤدي علاقة من هذا النوع إلى تفكيك اللحمة السياسية في الأردن.

وهكذا.. وهكذا.. لا نجد أمامنا منطقا سياسيا يضيع عبر التفاصيل، ونحتاج إلى عمل دؤوب لإبعاد التفاصيل عنه بحثا عن المنطق وتثبيته. وحتى نوضح ذلك لا نحتاج إلى تحليل، إنما نحتاج إلى رص التفاصيل إلى جانب بعضها بعضا، كأنها قطع من الفسيفساء، ومن الفسيفساء وحدها يمكن استخلاص لوحة. لوحة لا معنى لها سوى أنها موجودة.

هل نبدأ من إسرائيل؟ يمكن أن نفعل ذلك. وهنا نجد أنفسنا مباشرة أمام مسعى القضاء على حماس من أجل تحقيق تهدئة معها.. كيف؟ هنا تتدخل التفاصيل وتقول: اجتمع المجلس الوزاري الأمني المصغر يوم 24/12/2008، ومنح الجيش الإسرائيلي ضوءا أخضر للقيام بعملية عسكرية في قطاع غزة. وتوقع الخبراء العسكريون أن تتجنب إسرائيل القيام بعملية شاملة، وأن تكتفي بشن عمليات تصاعدية، يتم فيها: تكثيف عمليات القصف الجوي. القيام بعمليات عسكرية محددة. مواصلة عمليات الاغتيال. والهدف هو الضغط على حركة حماس، وحملها على وقف إطلاق الصواريخ، وقبول تمديد التهدئة.

وذكر الخبراء أن سبب استبعاد القيام بعملية عسكرية شاملة، يعود إلى التخوف من وقوع خسائر كبيرة في أرواح الجنود. والتأكيد على أن خطوة عسكرية واسعة بحاجة إلى موافقة الولايات المتحدة الأميركية.

وأجرى وزير الدفاع ايهود باراك عقب انتهاء الاجتماع، مقابلة مع القناة الثانية للتلفزيون قال فيها: إن إطلاق الصواريخ من قطاع غزة على جنوب إسرائيل سينتهي إلى الأبد. وقال: حماس هي المسؤولة عما يحدث، وستدفع ثمنا غاليا لإطلاق الصواريخ.

وترافق اجتماع المجلس الوزاري المصغر، مع تصريحات إسرائيلية تصعيدية. فقالت تسيبي ليفني وزيرة الخارجية: إن المعادلة في قطاع غزة يجب أن تتغير، وهي ستتغير. ومن جانبه قال وزير المواصلات شاؤول موفاز إنه يتعين على إسرائيل ترميم قدرتها على الردع .. وسلطة حماس في غزة يجب أن تغيب عن هذا العالم.

ومن جانبه قال بنيامين نتنياهو رئيس حزب الليكود في مؤتمر صحافي: إن على إسرائيل أن تنتقل من سياسة التلقي إلى سياسة الاعتداء، وهذه السياسة لا تأتي من أجل وقف إطلاق الصواريخ فقط، إنما لترميم الكرامة القومية. والحكومة التي سأرأسها ستعمل كل ما في وسعها لتغيير نظام حماس في غزة.

بعد إسرائيل تنتقل الأحداث إلى مصر. تنتقل بشكل طبيعي وسلس، وفيها نجد التفاصيل التالية: تسيبي ليفني وزيرة الخارجية الإسرائيلية وصلت إلى القاهرة يوم الخميس (25/12/2008)، بدعوة من الرئيس حسني مبارك، وترافقت زيارتها مع تصريحات لمسؤول مصري رفيع لم يذكر اسمه، أشاد فيها بمواقف ليفني لأنها كانت أول من أعلن ضرورة دعم الجهود المصرية لتجديد التهدئة في غزة، وباعتبار أن التهدئة حسب قولها تدعم العلاقات المصرية الإسرائيلية. وانتقد المصدر نفسه قرار حماس والفصائل الفدائية بإنهاء التهدئة وعدم تجديدها.

وربط الناطق بين الحوار الوطني الفلسطيني وبين التهدئة مع إسرائيل، وقال: لا حوار بلا تهدئة، فالتهدئة خطوة يجب أن تتقدم على الحوار، لأنه طالما هناك إطلاق صواريخ فإن إسرائيل ستستمر في غلق المعابر، وستظل قيادة حماس مستهدفة.

وقال الناطق «ليس من المصلحة أن تستمر الفصائل في غزة في استفزاز إسرائيل عبر استهداف البلدات الإسرائيلية بصواريخها، لأننا حينئذ لا نستطيع أن نقول للإسرائيليين لا تردوا». وقال «هناك تنسيق أمني جيد بين مصر وإسرائيل، والإسرائيليون في حاجة كبيرة لهذا التنسيق مع مصر».

وإذا مل القارئ من تفاصيل الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي وتوابعه، فباستطاعته أن ينتقل إلى إفريقيا، وهناك سيجد تفاصيل غريبة من نوع آخر. تفاصيل كشفت النقاب عنها محطة سكاي نيوز التلفزيونية التي أجرت مقابلة مع (مارك برترامب) الخبير العسكري والاستراتيجي الأميركي، ذكر فيها أن إسرائيل نصبت صواريخ حديثة في مواجهة السعودية ومصر، داخل قاعدة قديمة لها في أثيوبيا. وتشمل الصواريخ الإسرائيلية هذه، صواريخ من طراز أريحا القادرة على حمل رؤوس نووية. يذكر أن صاروخ أريحا هو صاروخ باليستي، صممته الولايات المتحدة الأميركية لاستخدام حلف الناتو في اوروبا. ويوجد منه ثلاثة أنواع يتراوح مداها من 450 كلم إلى 1450 كلم، وقد تم آخر تطوير له في إسرائيل عام 2007.

وهذه هي المرة الأولى التي تقوم إسرائيل فيها بتوجيه صواريخها نحو السعودية، وهي المرة الأولى التي تقوم فيها بتوجيه صواريخها نحو مصر، منذ توقيع معاهدة السلام بينهما عام 1979.

والغريب أن هذا التوجيه لصواريخ، يأتي في ظل إشادة إسرائيل، ورئيس إسرائيل، طويلا بالمبادرة العربية (السعودية) للتسوية السياسية. ويبدو أن ثمة رابطا بين التسوية وبين توجيه الصواريخ لا يعرفه المحللون السياسيون، إنما يمكن اعتباره قطعة فسيفساء جديدة، ترصف إلى جانب زميلاتها لتشكيل لوحة. لوحة ما.

ومن دون التفات إلى صواريخ إسرائيل ووجهتها، يصل الرئيس محمود عباس /ابو مازن إلى القاهرة، ويقول بعد لقائه مع الرئيس حسني مبارك (23/12/2008)، إنه تم الاتفاق مع مصر على استئناف الحوار الوطني الشامل لإنهاء حالة الانقسام الراهنة. وقال: «اتفقنا مع الأشقاء في مصر بأنه لا بد من استئناف الحوار رغم توقف حماس، وإن فشلت المساعي فلا بد من استمرارها وتواصلها، لأن المصالحة والحوار مصلحة فلسطينية».

ويبقى في اللوحة مكان لحجر أو حجرين، ويمكن الحصول عليهما من الأردن. ونقرأ عبر الحجر الأول ما يلي: «سنستمر في الدفع صوب حل (فلسطيني ـ إسرائيلي) على أساس الدولتين، من دون الخوض في أطروحات مثل الكونفيدرالية أو الفيدرالية بين الأردن وفلسطين، الآن أو مستقبلا، لأن الأردن لا يرغب في حلول كهذه». ونقرأ عبر الحجر الثاني ما يلي «التقطت عمان النافذة الدبلوماسية التي يرغب الرئيس الأميركي أوباما بالولوج منها للتعامل مع دول وقوى منطقة الشرق الأوسط بأي شكل دبلوماسي، مثل ايران وحماس وسوريا. وينظر الأردن إلى ذلك باعتباره فرصة لتنويع خياراته من دون كلفة سياسية تترتب على ذلك».

وهنا.. وعبر هذا الخيار الشارد باتجاه آخر، تكتمل اللوحة الفسيفسائية.

وهكذا نجد أنفسنا أمام تفاصيل تتراكم لتصنع لوحة. تفاصيل تبدأ من اللامنطق لتصل إلى شكل يحمل شيئا من المنطق.