غزة.. على الطريق إلى «نصر إلهي» آخر؟

TT

من البديهي أن تطغى بشاعة العنف الدموي الذي تمارسه آلة الحرب الإسرائيلية على أي تفكير سياسي عقلاني في هذه المرحلة. ولذا نجد أن كثيرين من أصحاب الآراء السديدة والمشاعر المخلصة داخل الوطن العربي، وفي العالم أجمع، يتماهون من دون قصد ـ ولكن من دون تردّد أيضاً ـ مع جيوش المزايدين والديماغوجيين و«الحذائيين».

فالصورة أقبح من أن تُحتمَل. والجاني أبعد ما يكون عن الظروف التخفيفية. وهو عندما يقدِم اليوم على ارتكاب حمّام دم آخر في قطاع غزة فإنه يدرك تماماً خلفيات فعلته، والأدهى من هذا، في اعتقادي، أنه يدرك كذلك ما ستصل إليه الأمور.

فمشروع العقل الإسرائيلي المتطرف، في أوان التطرف الاستثنائي، قائم أساساً على منطق أن حماية إسرائيل لا تتحقّق إلا عبر زرع التناقضات في محيطها. وبالتالي، فلا ضمانة لمستقبل إسرائيل إلا في بيئة متنافرة متخلّفة متزمّتة دأبها التخوين والإلغاء والتكفير والتنجيس.

هذا هو ما تترجمه الآلة العسكرية لهذا العقل الذي أسقط خلال العقود الأخيرة، بل لِنقُل منذ «مؤتمر مدريد»، كل فرص السلام في فلسطين.

وحتى بعد فوز حركة «حماس» في الانتخابات الفلسطينية، كنتيجة مباشرة لنفور المواطن من الفساد المستشري عند شرائح واسعة في حركة «فتح» ومسلسل المفاوضات السرّية في الأقبية المظلمة مع إسرائيل، مارست «حماس» لفترات غير قصيرة ضبط النفس. غير أنها كانت تفاجأ المرّة تلو المرة باغتيالات على مختلف المستويات حصدت بعض كبار قادتها كالشيخ احمد ياسين واسماعيل ابو شنب وعبد العزيز الرنتيسي.

هذه الاغتيالات كانت تفضح رغبة إسرائيلية في الهروب من استحقاقات السلام. وكان هروباً متعمداً من تلك الاستحقاقات أيضاً تحميل تل أبيب الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات مسؤولية عمليات «حماس» و«الجهاد الإسلامي» وفق سياسة مقصودة تسوّغ محاصرته وشلّ وحركته، ومن ثم القضاء عليه.

ولا شك أن مواصلة بناء المستعمرات وتوسيع القائم منها في تحدّ صارخ لكل القرارات والتفاهمات الدولية دليل إضافي على سعي تل أبيب الحثيث لنسف مقوّمات أي سلام حقيقي، ومنع قيام «الدولة الفلسطينية».

كل هذه الحقائق ساطعة ويعرفها القاصي والداني. وبعد أكثر من 60 سنة من نكبة فلسطين يُفترض أن العرب استوعبوا غايات اليمين الإسرائيلي في عصر سقوط الخيارات اليسارية داخل إسرائيل وخارجها.

مع هذا، كثير من الكلام الذي سمعناه أخيراً عبر الإعلامَين الزاعق والرصين يوحي بأننا اكتشفنا للتو «عدوانية» إسرائيل! وأي كلام هادئ وعميق بات ممنوعاً ومُداناً وسط الجعجعة والمزايدة .. بحجّة انه لا يجوز مساواة الضحية والجلاد!

مَن يساوي بين الضحية والجلاد؟

غير أن واقع إسرائيل كـ«حالة عدوانية» توسّعية لا يعذر للطرف الأضعف، الذي يدافع عن مصيره وإنسانيته وكرامته، اعتماد المغامرة، حيث من الأجدى التخطيط. ولا يعني ـ ولا يجوز أن يعني ـ الدفاع عن التفرّد ورهن القرار الوطني بتكتيكات واستراتيجيات وحسابات خارج إطار الإجماع الفلسطيني.

أنا لا أدري اليوم بالضبط حجم شعبية «حماس» و«الجهاد الإسلامي» في صفوف الفلسطينيين داخل الأراضي المحتلة وفي العالم ككل، مع أنني أقدّر أن كل فلسطيني، ككل عربي، في حالة تعاطف كامل. ولكن التعاطف في وجه عدوان غاشم يقتل المدنيين والأبرياء يستمرّ طالما استمرت المعاناة. وعليه، لا ضمانة في أن يكون النموذج الذي تريده «حماس» و«الجهاد الإسلامي» لفلسطين المستقلة، كما سمعت في كلمات السيدين خالد مشعل واسماعيل هنيّة خلال الأيام القليلة الفائتة، هو بالضرورة ما يحلم به كل الفلسطينيين.

إنني أتذكّر تماماً النضال الفلسطيني ومثالياته الثورية التقدمية والراديكالية. وأتذكّر كيف حوّل ذلك النضال القضية الفلسطينية إلى قضية حقّ وشعار تحرّر عالمي بالرغم من قوة الدعاية الصهيونية التي لعبت لفترة طويلة على وتر «عقدة الذنب» الأوروبية المسيحية إزاء المحرقة النازية.

كثيرون من تقدّميي العالم وأحراره ما زالوا يدافعون عن القضية الفلسطينية، ويثورون ويتظاهرون ضد معاناة الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، لكن جزءاً لا بأس به حتى من هؤلاء يدافع فعلياً عن مظلوم ولا يؤيد مشروعاً أصولياً يقرّ هؤلاء أنه (أي المشروع) في ثقافاتهم، كمسيحيين أو كيهود أو كعلمانيين، لا يختلف في تشدّده ومنطلقاته الدينية البحتة عمّا تطرحه حركة مثل «شاس» في الساحة اليهودية بإسرائيل.

بكلام آخر، نحن الآن مهدّدون بفقدان صورة تتمنّى إسرائيل أن نفقدها، لأنها ستنجح إذ ذاك في تصوير ما يحصل فوق أرض فلسطين على أنه مواجهة دينية يهودية ـ إسلامية.. وليس نضالا تحرّريا من أجل حقّ شرعي في تقرير المصير.

أمر آخر، علينا أن نكون صريحين بشأنه هو «سيناريو» نهاية العدوان الحالي.

فهناك نهايتان مرتقبتان: الأولى، اضطرار إسرائيل للتجاوب مع التدخلات الدولية لوقف عدوانها.. بشروط. والثانية استمرار العدوان وتفجيره حرباً إقليمية أو «انتفاضة» ثالثة قد لا تقتصر هذه المرة على الأراضي الفلسطينية.

ضمن شروط القيادة الإسرائيلية التوصّل، حتماً، إلى صفقة تستطيع «بيعها» للشارع الإسرائيلي على أنها انتصار أمني وسياسي على أبواب الانتخابات العامة خلال الشهر المقبل. لكن أي صفقة، بالنظر إلى تجربة «حرب 2006» مع «حزب الله» في لبنان، لن تمنع «حماس» بدورها من ادعاء تحقيقها «نصراً إلهياً» يمكن أن يؤدي ـ كما أدى «النصر الإلهي» لـ«حزب الله» ـ إلى تحوّل «حماس» و«الجهاد الإسلامي» باتجاه الداخل لترويضه والهيمنة عليه باسم شرعية المقاومة والدم. وبالتالي، سيُفتح من جديد داخل الأراضي الفلسطينية جرح نازف خطير قد يكفي بقواه الذاتية لإنهاء القضية.

أما احتمالا الحرب الإقليمية و«الانتفاضة الثالثة» فمربط الخيل فيهما عاصمة واحدة هي طهران. نعم، القرار الإقليمي الأعلى الذي يعتبر نفسه في الاتجاه المعاكس لإسرائيل هو، شئنا أن أبينا، قرار إيراني.

طهران تسعى، وهذا من حقها كقوة إقليمية ذات ذاكرة قومية تاريخية مدعومة بمشروع ديني، إلى إنهاك خصومها وإسقاطهم والحصول على ما هي مقتنعة بأنه حقّ لها. وإذا كانت فرنسا خلال القرن التاسع عشر نصبّت نفسها حامية للمسيحيين الكاثوليك، وروسيا للمسيحيين الأرثوذكس في المشرق العربي، فما المانع أن تنصّب إيران نفسها أولاً حامية للشيعة، وثانياً «سيفاً» للإسلام في وجه القوى العالمية غير المسلمة.. ومن ثم تعقد صفقتها القومية الكبرى مع الولايات المتحدة وإسرائيل النووية فوق ركام المنطقة وأهلها وأحلامها؟