ماذا بعد أن تنتهي «العملية الاسرائيلية» في غزة؟

TT

تقول اسرائيل ان العملية البرية في غزة تستهدف توجيه ضربة الى «حماس» المدعومة من ايران. ايران تنفي دعمها لـ«حماس». خالد مشعل حمّل مسؤولية الدم الفلسطيني الذي يزهق للعرب. استثنى قيادة «حماس» من فقدانها الحكمة والروية، بل على العكس، دعا الى انتفاضة ثالثة، ربما لم يلحظ عدد القتلى والحالة التي وصلتها البنية التحتية في غزة اثر القصف الجوي الاسرائيلي، وما آلت اليه اوضاع المياه والكهرباء والمجارير وخطوط الهاتف، هذا اذا لم نذكر دمار المنازل والمؤسسات والجامعات وأشلاء الاطفال والنساء. قوة غير متكافئة، لكن، كما يعد مشعل وكما وعد محمود الزهار، فان النصر آت. بعض المتطوعين الايرانيين توجهوا الى مطار مهر أباد للسفر الى غزة للقتال. بيان صدر في الثلاثين من الشهر الماضي من مجموعة للطلاب الايرانيين «دفتر التحكيم والوحدات»، ادان «حماس» واتهم من سلحها بأنه مسؤول عن الدم الفلسطيني، فأدى ذلك الى اصدار الرئيس الايراني محمود احمدي نجاد امراً باغلاق الصحيفة التي نشرت البيان، رغم ان «كاغوزارن» مقربة من هاشمي رفسنجاني. تقول البروفسور بيفرلي ميلتون ادواردز من جامعة «كوين» في بلفاست، والخبيرة في حركة «حماس»: «ان العلاقة بين «حماس» وايران تعمقت اكثر في السنتين الماضيتين الى درجة ان «حماس» تلقت مبالغ طائلة من ايران، ومنذ بداية عام 2007، بدأ زعماء «حماس» وعدد من اعضائها يزورون دمشق وطهران، وكانوا يأتون بالاموال عبر رفح. وهناك من يقول، انهم كانوا ينقلون هذه الاموال عبر الانفاق ايضاً». لكن حسب ادواردز، فإنه من الصعب تأكيد ما يدّعيه الاسرائيليون من ان ايران زودت «حماس» بصواريخ او ان صواريخ صينية شحنت من مكان ما من ايران الى دولة اخرى، ومن ثم عبر الأنفاق الى غزة. (بعض التقارير اشار الى شراء «حزب الله» لهذه الصواريخ من السودان، بأموال ايرانية، وتم تهريبها عبر سيناء بواسطة البدو وبعض رجال الأمن الى غزة). لكن، ما اعترف به قادة «حماس»، انهم استفادوا من خبرة مسؤولي أمن فلسطينيين وعسكريين، تدربوا سابقاً في ايران واليمن، وايضاً من عدد من فلسطينيي السلطة الذين تدربوا على ايدي الـ«اف.بي.آي»، ومن ثم انتقلوا الى صفوف «حماس». لكن ماذا تريد «حماس» ان تحقق من هذه المواجهة؟

تقول ادواردز، ان «حماس» اعلنت تكراراً انها لا تستطيع إلحاق هزيمة عسكرية باسرائيل، «لكن، لأن اسرائيل جعلت كل فلسطيني يشعر بالخطر، تريد «حماس» ان تتسبب بالشيء نفسه للمواطنين الاسرائيليين. اما الآن، فان «حماس»، مع العملية البرية، تريد ان تظهر عسكرياً انها قادرة على اسقاط ضحايا بين الجنود الاسرائيليين، في الاقل عبر الردع. مع اعتقادها أنها ستتجاوز هذه المحنة، وتبقى متمتعة بالدعم الشعبي». يقول البعض، ان «حماس» بعد هذه المواجهة، ستبقى لتشن معركة اخرى لاحقاً، وانها مثل «حزب الله»، ستصبح قوة سياسية يؤخذ لها الف حساب. لا تشجع ادواردز على هذه المقارنة مع «حزب الله»، لأن تركيبة «حماس» مختلفة: «من المؤكد انها ستبقى قوة سياسية، انما ضعيفة، لكن لن تختفي ولن يتم اقتلاعها بالكامل من الخريطة السياسية». المشكلة عند «حماس»، ان لا زعيم محدداً لها. فهي منذ اغتيال الشيخ احمد ياسين عام 2004، اعلنت انه لن يكون هناك قائد محدد لها، فالتنظيم لا يقوم حول شخصية واحدة قوية، وتقول ادواردز، ان الايام العشرة الاخيرة أكدت ان هناك عدة قادة لـ«حماس»: «هذا الامر بدوره يتسبب بمشكلة لإسرائيل وللبعض في تنظيم «فتح» الذين يتطلعون الى الغاء «حماس». اقول ان هذا يتسبب بمشكلة ايضاً للذين يعملون لوقف اطلاق النار، اذ لن يعرف احد ما تطلبه «حماس»، للقبول بوقف اطلاق النار؟ تجيب: «لا يستطيع شخص واحد ان يعلن هذا، لأن «حماس» قائمة على مبدأ الشورى، حتى في هذا الوقت الصعب، سيكون القرار جماعياً، لأن الاتصالات بين قادتها مستمرة ». (غازي حمد الناطق الاعلامي باسم «حماس»، اعلن مساء الاثنين الماضي على شاشة القناة الثانية البريطانية، ان الحركة مستعدة لقبول وقف اطلاق النار، لأنها لم تكن لتعتقد بأن صواريخها البدائية يمكن ان تتسبب بمثل ردة الفعل الاسرائيلية هذه). تؤكد ادواردز، ان العلاقة مع «فتح» ليست على اجندة قادة «حماس»، رغم ان وقفاً لإطلاق النار يشمل انسحاب القوات الاسرائيلية، قد يمر من رام الله. هي تتوقع ان تصبح «حماس» بعد ايام قليلة مستعدة لوقف اطلاق النار (اسرائيل اكدت ان معاركها البرية ستستمر عشرة ايام اخرى). لكنها تستبعد ان تقبل «حماس» بأي دور لـ«فتح» او منظمة التحرير الفلسطينية في مفاوضات وقف اطلاق النار، او ان يكون لهما اي دور في مراقبة وتطبيق ذلك الاتفاق، ذلك ان «حماس» تريد ان تبقى المسيطرة الوحيدة على غزة. من أبرز ضحايا هذه المواجهة، بعد الذي تكبده المدنيون في غزة، هي الدولة الفلسطينية المستقلة او الحل على أساس الدولتين. من المستحيل الآن الحديث عن حل، كل ما يمكن بحثه هو ادارة الصراع، وتكمن ادارة الصراع الآن في ترتيب وقف لإطلاق النار يبعد المدنيين عن تلقي الضربات. بعد ان تنتهي العملية الاسرائيلية في غزة، ستبقى الاراضي الفلسطينية منقسمة سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وجغرافياً، ما بين غزة والضفة الغربية، بحيث يكون من المستحيل قيام دولة فلسطينية. وبغض النظر عن قوة «حماس» لاحقاً او ضعفها، فان «فتح» ممزقة داخلياً وليس لديها اي قدرة على فرض نفوذها في غزة. ورغم الدعم الذي يلقاه محمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية، فقد يكون بين كبار الخاسرين. في هذه الاثناء ستظل اسرائيل تشجع الفلسطينيين على الاقتتال الداخلي بشرط ان يبقى تهديدهم العسكري مسلطاً على بعضهم بعضا وليس عليها. من نصح «حماس» بعدم تجديد «التهدئة»؟ مصر نصحتها بالتجديد، فكانت النتيجة انها اتهمت بالتواطؤ مع اسرائيل، لأن وزيرة الخارجية الاسرائيلية تسيبي ليفني زارتها قبل العملية، مع العلم ان رئيس الوزراء الاسرائيلي ايهود اولمرت زار أنقرة قبل العملية بأربعة ايام. لوحظ ان الذين نصحوا «حماس»، دفعوها الى التنديد بالدول العربية وعدم الاشارة الى تركيا او ايران. اعتقدت «حماس»، بناءً على تجربة «حزب الله» في لبنان، بأن الصواريخ كفيلة بالرد على اسرائيل، وانه بعد سقوط ضحايا مدنيين في غزة، سيتضاعف الضغط الدولي على اسرائيل كي تتوقف. لكن، بناءً على تجربة اسرائيل مع «حزب الله» في لبنان الذي اعتبر انه انتصر، لأن اسرائيل لم تتمكن من تدمير صواريخه، وإن كانت دمرت لبنان. ادركت اسرائيل ان عليها ان تكسب اي معركة اخرى مهما كان الثمن. واذا كان العالم تدخل في حرب اسرائيل و«حزب الله»، لأن الحرب وقعت على الاراضي اللبنانية قام بها حزب تجاوز الدولة الشرعية، إلا ان «حماس» هي «الشرعية» في غزة بعدما انقلبت على السلطة الفلسطينية.

في الحسابات، اخطأت «حماس» في التوقيت ايضاً. واذا كانت الدول التي شجعتها على عدم تجديد «التهدئة»، ارادت عبر دماء الابرياء الإمساك بشدة بالورقة الفلسطينية لمكاسب تريد تحقيقها مع الادارة الاميركية الجديدة، فان ادارة باراك اوباما ستكون منشغلة بأزمات جيو ـ سياسية اكثر اهمية، ذلك ان الازمة الباكستانية ـ الهندية ما زالت مستعرة، الوضع في افغانستان يتدهور وطالبان تزداد قوة، والعراق مقبل على تطورات خطيرة، خصوصاً اذا اقنع رئيس الوزراء نوري المالكي ايران كي تساعده لاحتواء السنة والأكراد مقابل اعطائها اليد الطولى في العراق. وامام الادارة الاميركية الجديدة مشكلة اكبر مع روسيا التي تتمدد مناوراتها العكسرية أكثر في المتوسط، وآخرها مناوراتها مع اليونان الدولة في الحلف الاطلسي، كذلك قطع روسيا لإمدادات الغاز عن اوكرانيا وتأثير ذلك على حلفاء واشنطن في اوروبا، بدون ان ننسى بالطبع ان اوباما يؤكد ان أولى اولوياته انقاذ الاقتصاد الاميركي من الانهيار التام. الذين نصحوا «حماس» لن يذرفوا دمعة عليها بل ربما سيدفعونها الى ارتكاب المزيد من الاخطاء الجسيمة، طالما ان الضحايا من الفلسطينيين، وان قادتها بمثابة الرهائن. لأهالي غزة نقول: ان الجمرة لا تحرق إلا موضعها. كل هذه المظاهرات لم توقف قتلهم. وأكثر الذين يبكون الآن على غزة متآمرون عليها. خلال اجتماعات وزراء الخارجية العرب الذي انعقد اخيراً في القاهرة، ابدى احد الوزراء الخليجيين ألمه لسقوط الضحايا الفلسطينيين وكان العدد تجاوز 400 ضحية، في معركة غير متكافئة. وسأل وزير الدولة الخليجية التي تدعم «حماس» حتى آخر فلسطيني، عن الحكمة من ذلك؟ فكان جوابه: حتى لو وصل عدد الضحايا الى سبعة آلاف لا يهم..

وفي مؤتمر القمة الخليجية الاخيرة سأل زعيم خليجي زعيم الدولة التي تدعم «هوائياً» «حماس» وتحرضها على مزيد من دفع للضحايا من مدنيي غزة: «لا نعرف هل انتم مع «حماس» أم مع اسرائيل، وكيف توفقون بين الاثنتين؟.

كما في كل معركة، يبقى الفلسطينيون وقوداً، ذلك لأن قادتهم يدخلون دائماً في لعبة خطيرة تلعبها الدول الاقليمية، وبسبب هؤلاء القادة ستظل القضية الفلسطينية تتراجع.