«الرصاص المسكوب»..إعلاميًّا

TT

أمام دفق الصور والمشاهد المباشرة لعائلات تُباد بكاملها عن بكرة أبيها، ولرُضّع وأطفال لم يتسنَّ لهم إغماض جفونهم، بعد أن قتلتهم نيران «الرصاص المسكوب» المنهمر على غزة، من الصعب الحديث عن هدوء وعقلانية ربما نحن بأمسِّ الحاجة إليها في ظل المجازر الدائرة بحق الفلسطينيين.

كل المؤشرات توحي بأنه لا حلّ قريبًا، وأن أمد المحنة قد يمتد مهددًا آلافًا آخرين ، خصوصًا مع دخول الإسرائيليين في اقتحامهم البرّي إلى تخوم مناطق التجمعات السكنية الكبرى في غزة، مما يعني مزيدًا من مشاهد الموت الفاجع الذي نطالَع به كل لحظة عبر وسائل الإعلام.

أكثر من ثلث ضحايا الهجمة الإسرائيلية على غزة من الأطفال..

لم تبخل علينا الشاشات ووسائل الإعلام بصور صغار غزة، إمّا وهم يلفِظون أنفاسهم، وإما وهم صرعى يُنتشلون من تحت ركام الأبنية المدمَّرة، مضرَّجين بدمائهم، تحيط بهم صرخات ودموع أهلهم وأقربائهم.

ولأن المأساة تتكرر، يتكرر معها ذلك الالتباس في تعامل الإعلام العربي مع صور الضحايا المرِّوعة.

لا حرمات لصور الأطفال الموتى مهما كانت قاسية ومؤلمة...

لا حرمات لصور الموتى عمومًا في وسائل إعلامنا.

تَكرّس هذا الواقع مع تكرار مآسي القتل الجماعي، لكن في كل مرة يُظهر بعضُ الإعلام مزيدًا من الإصرار والاحتراف (بالمعنى السلبي للكلمة) في تظهير صور الموتى مهما كانت قاسية. لعل ذروة ذلك التظهير هي ما شاهدناه الاثنين الماضي حين بادر مراسل فضائية إخبارية بارزة، إلى إجراء مقابلة مع أب فلسطيني فقد رضيعه ضمن مَن فقد من عائلته، جرّاء القصف الإسرائيلي.

كان الأب المفجوع يحمل رضيعه الميت ملفوفًا بكفنه على ذراعه، بينما المراسل يسجل مقابلة معه بل ويلحّ في الأسئلة، وطوال المقابلة كان جثمان الطفل وعيناه نصف المغمضتين ظاهرين في الشاشة.

كانت لحظة ابتذال مفرط للموت وللطفولة الفلسطينية.

الإصرار على مقابلة مع أب يرتجف جسمه وكلماته، ومعها يهتزّ جثمان الطفل الضحية.. قبلها رأينا الكثير من مشاهد رفع أكفان الأطفال أمام الكاميرات، أو كشف وجوه الأطفال لالتقاط صور لهم.

ليست المرة الأولى..

خلال حرب تموز 2006، وقبلها في حروب إسرائيلية أخرى، كان السخط والغضب يدفعاننا كمجتمع وكإعلام، إلى توظيف الصورة، خصوصًا تلك الخاصة بموتانا، على نحو مفرط في الابتذال.

لا شكّ أن للصورة في معركةٍ، كتلك الدائرة في غزة، وظيفةً أساسية وحيوية، من حيث إظهار حقيقة ما يجري للرأي العامّ، خصوصًا الغربي منه. من الضروري الإضاءة على المأساة وإظهار ضحاياها، لكن هناك حدّا فاصلا بين وظيفة الصورة لجهة حشد رأي عامّ في مواجهة حرب شرسة، وابتذال الصورة وانتهاك حرمات الموتى، خصوصًا الأطفال منهم.

لصورة الضحايا دور، لكنها لا يمكن أن تكون تعويضًا عن عدم توازن القوى، كالذي يحصل اليوم على النحو الذي بات مكرَّسًا عبر كثير من شاشاتنا.

diana@ asharqalawsat.com

* مقال اسبوعي يتابع قضايا الإعلام