النكتة.. وعلاقتها بالوعي

TT

هي نكتة قديمة من أربعينات القرن الماضي عن بقال خواجا وبقال ابن عرب يعملان في دكانين متقابلين. في ذلك الوقت كان اليونانيون يملكون محلات بقالة في كل مدن مصر وقراها حتى تلك البعيدة في جوف الصعيد. ولما كانت النكتة بوجه عام تتصدى بالشرح والتشريح لأخطاء السلوك البشري واستخراجها ووضعها في دائرة الضوء. هكذا ظهرت نكات كثيرة عن الأجانب (الخواجات) تتناول ضعفهم وبلاهتهم في مواجهة أولاد العرب الأذكياء واسعي الحيلة. تقول النكتة إنه في شهر رمضان وهو موسم بيع الياميش، كتب الخواجا لافتة كبيرة في واجهة الدكان تقول «التين بــ 100 قرش فقط» وعلى الفور كتب البقال ابن العرب «التين بــ 80 قرشا فقط» عندها اضطر الخواجا لبيع التين بـ 70 قرشا. غير أنه فوجئ بمنافسه يعلن في لافتة جديدة عن نزول السعر إلى 50 قرشا فقط. عندها فقد أعصابه وذهب إليه ساخطا وقال له: بتبيع التين بخمسين قرشا.. ده انت تخسر يا خبيبي.

وهنا رد عليه البقال ابن العرب في هدوء ودهشة: تين إيه يا خواجا.. هو احنا عندنا تين؟

قال له ذلك وأشار إلى اللافتة فاكتشف الخواجا أنه لا يوجد تين ولا يحزنون، توجد لافتة فقط تعلن نزول السعر لتين وهمي لا وجود له.

تيار النكات القوى عن العلاقة بين الخواجا اليوناني (رمز التفكير الغربي) الساذج والمصري حاد الذكاء، تجسد في بداية الخمسينات في فقرات فكاهية ممتعة في فرقة ساعة لقلبك الإذاعية، بين الخواجا بيجو وأبو لمعة، أبو لمعة في كل مرة يحكي عن أشياء خرافية مطالبا الخواجا بتصديقها بوصفها حقائق لا تقبل الشك بينما الخواجا عاجز كل العجز عن تصديقها فيكتفي بالسخط. بشكل عام كان محتوى النكتة هو أن الخواجا (أهبل) وأن المصري يتفوق عليه في الذكاء والحيلة. غير أن النكتة كما يرى فرويد صادقة في كل الأحوال (للمهتمين، اقرأ النكتة وعلاقتها باللاوعي لفرويد) هو يضعها من ناحية إظهارها للحقيقة على نفس المستوى مع الأحلام وهفوات اللسان. هناك حقائق في السلوك البشرى مدفونة بعيدا داخل النفس البشرية، النكتة وحدها هي القادرة على استخراجها على سطح الوعي، في اللحظة التي تضحك فيها على نكتة ممتازة تكون قد اكتشفت حقيقة كانت غائبة عن بالك، وبذلك هو يربط بين روح المرح والقوة النفسية للشخص. غير أنه لا بد من التنبه إلى أن كل ما يضحك ليس بالضرورة فكاهة، ففي أحيان كثيرة يكون مصدر الضحك هو البلاهة وتكون المأساة عندما تقدم هذه البلاهة للناس بوصفها أعمالا كوميدية مساهمة بذلك في تزييف وعيهم وصرف أنظارهم عن عيوبهم الحقيقية.

المنافسة في السوق عمل من أعمال المقاومة المشروعة عند كل من يعملون في الأسواق، والبقال ابن العرب من حقه أن ينافس الخواجا ليتفوق عليه، واستطاع بالفعل أن يتسبب في خسارته عندما أرغمه على النزول بسعره، غير أننا لا بد أن نلاحظ أننا أمام مدرستين في التعامل، المدرسة الغربية، لديها تين ولديها لافتة تعلن بها سعر ذلك التين للمستهلك. والمدرسة الأخرى ـ العربية للأسف كما تقول النكتة وليس أنا ـ لديها لافتة فقط وليس لديها تين، إنها مدرسة أصحاب اللافتات الذين ليس لديهم ما يقدمونه للآخرين. إنها مدرسة تضيع وقتها في الخداع، خداع الذات وخداع الآخرين. ليس مهما أن تمتلك ما تزعم أنك تقدمه، المهم فقط أن تزعم ذلك إلى أن يكتشف زبائنك ومنافسوك أنه لا شيء لديك ولا يحزنون، تمتلك فقط كلمات رفعتها كلافتة أو شعار لبضاعة لا وجود لها.

في اللحظة التي تنتهي فيها من سماع النكتة، ربما تعجب بسلوك ذلك البقال البارع الذي ينافس الآخرين بالشعارات فقط، غير أن النكتة لا تهدف إلى ذلك، هي لا تهدف إلى تمجيد هذا السلوك، هي فقط توضح لك مدى ما فيه من خلل في التفكير لكي تبتعد عنه وتتفاداه. لا تعلن عن بيع سلعة ليست موجودة لديك، سواء كانت التين أو المقاومة أو الحرب والسلام. يجب ألا تعلن عن بيع سلعة قديمة اسمها الحرب بين المسلمين والكفار، لأن هذه السلعة لم يعد لها وجود في أسواق الدنيا والتاريخ، والأخطر من ذلك كله هو أن يصدق الآخرون أنك عازم فعلا على قتالهم بوصفهم كفارا عند ذلك تتفجر الكارثة. إنقاذ الفلسطينيين في غزة ليس جهادا في سبيل الله، إنها جهاد في سبيل إنقاذهم من محتليهم وربما مما يفعله بهم محرروهم أيضا. كل أصحاب الشعارات ليس لديهم شيء حقيقي يغذي احتياجات الناس، احتياجات شعوبهم وأهلهم، هم أصحاب لافتات فقط يقودون الناس من كارثة لأخرى. الشعب الفلسطيني وبقية شعوب المنطقة والعالم في حاجة لسلعة واحدة في الشرق الأوسط وهى دولة فلسطينية ديمقراطية بحكومة موحدة تحمى أطفالها ونساءها من القتل والتشريد.