للحيطان لسان

TT

كنا نقول خذ بالك يا ولد للحيطان آذان. ولكننا أصبحنا نلاحظ أن الحيطان حصلت أخيرا على لسان أيضا. صار لها أدبها وفنها. إنه فن الغرافيتي، فن الكتابة على الحائط. وهو فن عريق يمتد إلى عهود الفراعنة والبابليين. ووصل إلى مستوى عال في عهود اليونان والرومان. بانتشار التعليم في العصر الحديث، شاعت ممارسة الغرافيتي حتى لم يعد بإمكاننا أن نمر في شارع أو زقاق دون أن نرى شيئا منه. صور إباحية، عبارات بذيئة، أشعار خليعة وشتائم ومسبات. طغت أخيرا المواضيع والشعارات السياسية والدينية. أصبح الغرافيتي منبر الاحتجاج ولسان من لا لسان له. ما على المراسل الصحافي الباحث عن النبض الحقيقي للجمهور إلا أن يقرأ ما كتبوه على الحيطان.

بيد أن قرف الناس من السياسة والسياسيين وكل أحزابهم وأكاذيبهم، صرف أدباء الغرافيتي مؤخرا إلى تكريس طباشيرهم إلى الأدب المباشر. أخذنا نقرأ منهم على حيطان المراحيض والحمامات والأزقة الشعبية ألوانا طريفة من الشعر والأدب يتميز ببلاغة الإيجاز وظرف العبارة وخفة الروح وصدق الفكرة والإحساس والنفسية الشبابية. الغرافيتي لسان الجيل الصاعد الذي يتحدى الرقيب والسلطة والتقاليد وملامة المجتمع.

انصرف الكثير من الباحثين الغربيين إلى جمع هذه النتف الغرافيتية وتحليلها ودراستها ونشر الكتب عنها. لا عجب أن قرأت هذه العينة منها أثناء زيارتي لجامعة سسكس في جنوب انجلترا:

«لقد استشهدت في الامتحان النهائي بكارل ماركس ورسبت في الامتحان»

جاء تلميذ آخر، وكتب تحت ذلك:

«أنا استشهدت بآدم سميث ورسبت في الامتحان أيضا».

جاء تلميذ ثالث، وكتب بقلم عريض:

«أنا أوردت اقتباسا من الإنجيل ورسبت في الامتحان النهائي».

وقال رابعهم: «أنا استشهدت بما قرأته مكتوبا على الحيطان ونجحت!».

الروعة في أدبيات الحيطان أنها غالبا ما تقوم على الحوار الحر. تكتب أنت شيئا ويأتي رجل آخر لا يعرفك ولا تعرفه فيعلق على ما كتبت. ثم يقرأ شخص ثالث ما كتبتما، فيوحي له بشيء جديد يضيفه إلى ما سبق. يأتي أخيرا شخص عابر سبيل، الداعي كاتب هذه السطور، فيقرأ ما كتبوا ويهتز بما قرأ فيسجل كل ذلك، ويصيغ منه مقالة صحافية يقرأها القارئ الكريم على بعد ألوف الأميال.

كان منها ما قرأته في منطقة همرسمث في لندن على حائط بيت مهجور:

«المجد لصدام حسين!»

شطبوا على كلمة المجد وكتبوا «الموت». جاء شخص آخر وشطب على كامل العبارة وكتب تحتها «يعيش بطل العروبة صدام حسين». وضعوا خطا عليها بقلم فحم وكتبوا تحتها: «يسقط المجرم صدام حسين جزار حلبجة».

تحت كل هذا الكلام المشطوب ، قرأت هذه العبارة: «أنتم أيها العرب ... ألا تستطيعون الاتفاق على شيء؟».

قرأت هذه العبارة وقلت لنفسي يا سبحان الله حتى الإنجليز أصبحوا يضحكون علينا. وما أشبه الليلة بالبارحة ونحن نواجه هذه المأساة في غزة.

www.kishtainiat.blogspot.com