«نفس»!

TT

هل «النفس» العربي قصير؟ قدرة التركيز والاهتمام المستمر في العالم العربي يبدو أن لها سقفاً وحدوداً، ظهر هذا خلال المعركة المسعورة التي أقدم عليها الجيش الإسرائيلي بحق قطاع غزة وأهله، والتي نتجت عنها مجزرة بشرية مرعبة. ومع التغطية الميدانية غير المسبوقة لهذا الحدث، استمر الاهتمام والتفاعل ومتابعة ما يحدث على أرض غزة حتى نهاية الأسبوع الثاني، وبعد ذلك كان بالإمكان الاستماع إلى تعليقات «حادة» و«صعبة» مثل «كفاية، وتعبت ومللت من مناظر القتلى ومن موضوع غزة!». وبمقدار صعوبة هذا التعليق وغرابته إلا أنه يعكس واقعاً حقيقياً على قدرة الشارع العربي على الاستمرارية في القضية السياسية الأساسية له.

ولا ينعكس هذا على المتابعة الإعلامية للقضايا السياسية الكبرى، ولكن قِصَر «النفس» ورداءة التركيز تنعكس على مسائل كثيرة، فلم يعد القارئ يستطيع قراءة المقال الطويل وبات يحبذ ما قلّ ودلّ، ولم يعد لديه القدرة على التركيز في الأغنية الطويلة وأصبح يفضل الأغنية القصيرة السريعة، كل ذلك ولّد وأفرز مناخاً مغايراً مختلفاً فأصبحت الرسائل التليفونية القصيرة «أهم» من بطاقات المعايدة والخطابات الغرامية. ولعل الظاهرة الأبرز في تطرف قصر النفس هو ظاهرة شعبان عبد الرحيم المغني المصري الذي يضحك سامعيه أكثر من أن يطربهم، وهو تمكن بلحن واحد فقط من أن يستخدمه لأجل أن «يبطل سجاير» (وإن كان هناك جدل لا يزال قائماً إذا كان بطّل أصنافاً أخرى أم لا!)، وأيضاً استخدم اللحن نفسه ليعلن أنه «بيكره إسرائيل ويحب عمرو موسى»، وكذلك ليعلن غضبه من حروب بوش على العراق، أو نقده اللاذع للخلافات الفلسطينية البينية، وأخيراً في حملة التوعية العامة ضد مرض أنفلونزا الطيور. كل ذلك باللحن نفسه. ويبدو أن هذه الظاهرة - أي الشعبانية السياسية - تتكرر في مواقف بعض رموز السياسة في العالم العربي، حيث يتم تبني بعض المواقف السياسية بنفس الأسلوب الراقص، فقط لأجل الرفض، مهما اختلفت المواقف وأسبابها وأطرافها، إلا أن الرفض يستمر قائماً.

وهناك أمثلة حية وحاضرة تؤكد ذلك في مواقف خالد مشعل ومهدي عاكف، اللذين تحولت مواقفهما لأجل العناد وإثبات «الجدوى السياسية» لا أكثر. وكما ابتلي العالم العربي بأعراض غريبة طرأت عليه، ورأينا فيه الأغنية الفورية والرأي الفوري، ظهرت علينا المعارضة السياسية الفورية (هدفها غير واضح، وتحالفاتها غامضة، وغايتها تبرر الوسيلة وهناك مستفيدون «آخرون» يحصدون من زراعتها). القضايا المحورية في العالم العربي تتطلب النفس الطويل والمثابرة، ولعل هذا يفسر الإخفاق المستمر في التعاطي مع القضايا الكبرى في العالم العربي؛ قضايا مثل: التعليم والقضاء والصحة والتنمية، وهذه كلها تصنع المجتمعات القوية المستقرة. وهذا طبعاً لا يزال حلماً بعيد المنال. حتى يدرك العرب أولوياته ويتعرفوا على الأهم ثم المهم ويتعاملوا معه بجد وحزم وأمانة، ستظل الحلول الفورية بأشكالها المختلفة هي الأكثر إغراءً ولكنها في حقيقة الأمر ما هي إلا وهمٌ لا أكثر.

[email protected]