عودة إلى الانتخابات من جديد في العراق

TT

سوف يشهد العراق اليوم طوفانا من الناخبين، حيث يتجه الملايين من العراقيين إلى صناديق الاقتراع لانتخابات السلطات الحكومية المحلية، واللازمة لتطوير النظام الفيدرالي الذي تعهد به الدستور. وسوف تعكس هذه الممارسة الصورة الحقيقية للمشهد السياسي، حيث سيقرر الناخبون الساسة الذين سوف يدعمونهم ويمنحونهم الثقة، ومن سينبذونهم.

وتعتبر انتخابات اليوم هي الأولى في العراق منذ عام 2005، وهي بالغة الأهمية لعدة أسباب:

أولها، أنها أول انتخابات تخوضها كل المجتمعات العرقية والدينية والأحزاب السياسية المختلفة. وفي هذه المرة لن يجلس أحد مقطب الجبين على هامش الانتخابات.

وهناك حقيقة أخرى مفادها أن الأحزاب المتنافسة على الانتخابات في الوقت الحالي لديها سجل حقيقي - فضلا عن أنه واقعي - يمكن أن يحكم الناخبون على أساسه.

والأكثر أهمية أنه من المحتمل أن تكون هذه الانتخابات هي الأولى التي يعتبر عامل المستقبل فيها الموضوع الرئيس للحملة الانتخابية بدلا من الماضي. ورغم الذكريات المريرة الكامنة في خلد معظم العراقيين، إلا أن صدام وأتباعه بدأوا في الارتداد إلى الوراء ليصبحوا في طي النسيان.

وأخيرا، تعتبر هذه الانتخابات هي الأولى من نوعها منذ أن استعاد العراق سيادته من جديد، وهي السيادة التي فقدها صدام حسين في عام 1991، والفضل في ذلك يرجع إلى تمرير القرار رقم 1859 الصادر عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في مستهل هذا الشهر، فقد استثنى القرار العراق من القيود المنصوص عليها في الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، فمرحبا بك يا عراق من جديد بين العائلة الدولية. وليس من قبيل المبالغة القول بأن هذا الحدث يمثل استقلالا ثانيا للدولة التي فقدت حق تقرير مصيرها قبل 28 عاما.

ومن المؤكد أن العوامل المحلية سوف تلعب دورا كبيرا في انتخابات اليوم، ومن المتوقع كذلك أن تؤثر الممارسة على عدد من القضايا القومية الحاسمة أيضا. ومن أكثر هذه القضايا أهمية، قضية الفيدرالية، وهي مفهوم جديد بالشرق الأوسط، كما أنها تتسبب في توليد أغلب النقاش الموجود حاليا في العراق.

ورغم ندرة هذا الشكل من الحكومة نسبيا، إلا أن الفيدرالية تعتبر موجودة بوفرة على الصعيد الدولي، فالهند فيدرالية، وكذا الولايات المتحدة، وكندا، والمكسيك، وألمانيا. وفي سياق مختلف قليلا، يمكن اعتبار إسبانيا وبلجيكا اتحاديتين. ويبدو هذا على أنه من أفضل النظم ملاءمة للدول الكبرى متعددة العرقيات، التي طورت لنفسها نظاما ديمقراطيا.

ويمكن أن ينطبق هذا التعريف على العراق، الذي رغم اعتباره دولة كبيرة من حيث مساحة الأرض والديموغرافيا، إلا أنه يتسم بمجتمعات دينية وعرقية تشبه الفسيفساء. وثمة إجماع قومي بالعراق أيضا على أن نظام الديمقراطية البرلمانية هو أفضل ما يلائم احتياجات وطموحات البلاد.

ومع ذلك، فإن هناك بعض الاختلافات الكبرى بين العراق والدول الأخرى التي طورت لنفسها نظاما فيدراليا. ففي كل حالة تقريبا، تحققت الأنظمة الفيدرالية عند اندماج العديد من الكيانات المستقلة أو المتمتعة بالحكم الذاتي لتشكيل حكومة موحدة. أما على الجانب الآخر، فيعتبر العراق دولة مركزية إلى حد كبير منذ بدايتها خلال فترة العشرينات. وبالتالي، فإن ما هو كائن في العراق يعد عكس ما هو كائن في الدول الفيدرالية الأخرى.

ويمثل النفط العراقي اختلافا آخر، فأكثر من 90% من احتياطات النفط بالبلاد - أي نحو 11% من إجمالي الاحتياطي العالمي - تكمن في 3 محافظات فقط، تحظى بـ20% من السكان. أما في الأنظمة الفيدرالية الأخرى، لا يمكننا أن نجد أي هوة بين المحافظات التي تتمتع بالثروات الطبيعية والأخرى الفقيرة منها.

وتوضح موارد المياه العراقية اختلافا آخر، فاستخدام وإدارة هذه المصادر بدءا من الري وحتى الملاحة والسيطرة على الفيضان يستلزم درجة عالية من المركزية. ونجد حقيقة أخرى تتمثل في أن 80% من الأراضي الخصبة في العراق تقع في 6 محافظات فقط، يقطن بها أقل من 40% من السكان.

ولنتذكر أيضا أن العراق يعتبر محاطا فعليا بالأراضي، (فمنفذه الوحيد يتمثل في خط ساحلي ضحل طوله 72 كيلومترا على الخليج العربي)، وهذا يمكّن محافظة واحدة فقط من السيطرة على مجاز ضيق من اقتصاد البلاد. وأخيرا، يقبع العراق بين جيران خطرين، كما أنه محاط بقوى معادية مرابطة يمكن أن تستخدم النظام الفيدرالي الهش كأداة لبسط نفوذها على البلاد. ولهذا، يتعين على العراق تطوير النظام الفيدرالي الذي يعكس بدوره واقعياته، ويستجيب لاحتياجاته الخاصة. ويناصر بعض العراقيين - خاصة النخبة الكردية العراقية - نظاما أقرب إلى الكونفدرالية بدلا من الفيدرالية. ويعد نموذجهم نسخة مبالغا فيها من الكونفدرالية السويسرية، بحيث تدير الأقاليم أكثر الأمور السياسية. وبالنظر إلى النتيجة المنطقية لرؤيتهم، فإن من شأنها تحويل العراق إلى دولة حقيقية تستأثر السلطات المحلية فيها بالسلطة.

من ناحية أخرى، لا يمكن للعراق أن يصبح سويسرا عربية كردية حتى وإن رغب أغلب العراقيين في هذا، فالبيئة الجيوسياسية، والخواص الطبيعية والتاريخ تمثل دورا أكبر للحكومة المركزية أكثر من الذي يسمح به النظام السويسري.

وفي الجانب الآخر، نجد بعض العراقيين ممن يطمحون في حكومة مركزية قوية مع تضاؤل مشهد الفيدرالية المجرد. وإذا ما كنت صائبا في فهمي لواقع الأمور، فرئيس الوزراء نوري المالكي واحد منهم. ومع ذلك، فقد جانبهم الصواب أيضا، فتحت ولاية الهاشميين، والبعثيين، وخلال الفترة القصيرة التي قضاها عبد الكريم قاسم، لم تجلب الحكومة المركزية القوية للعراق سوى البؤس.

ومن هذا المنطلق، يتعين علينا أن نرى ما الذي سيجلبه علينا طوفان الناخبين، ومع ذلك فإن تخميني الشخصي أن غالبية العراقيين يرغبون في حكومة مركزية قوية تقوم على الكيانات الفيدرالية الحقيقية، وهو النظام الذي سيحمي الدولة من أعدائها، فيما سيسمح للشعب بإدارة حياته اليومية في سياق التنوع العرقي، والديني، والثقافي.