الأزمة المالية بين بولم ودافوس

TT

بدأ يوم الثلاثاء 27 يناير المنتدى الاجتماعي العالمي لتيارات العولمة البديلة في مدينة بولم البرازيلية، تزامنا مع انعقاد منتدى دافوس الذي هو اللقاء السنوي الكبير للقوى والمؤسسات المتحكمة في الاقتصاد العالمي.

ومن البديهي أن المناسبتين المتزامنتين تلتئمان هذه السنة في ظرفية خاصة هي الأزمة المالية العالمية التي عصفت بالاقتصاد الدولي، ولا تزال تتطلب حلولا جذرية عملية تفادياً لما هو أسوأ.

وإذا كان هدف المنتدى الرأسمالي الكبير هو حل معضلة انفصام حركة السيولة المالية عن الاقتصاد الإنتاجي الواقعي بوضع آليات تنظيمية ضابطة (باعتبار أن هذا الانفصام هو سبب الأزمة الحالية)، فإن المنتدى الاجتماعي الذي يعرف أيضاً بمنتدى بورتو إليغرو يرى أن الأزمة القائمة حالياً هي دليل موضوعي على فشل العولمة الرأسمالية وعلى الحاجة المتزايدة إلى البديل الاجتماعي الذي تنادي به حركية العولمة البديلة في شعارها المشهور «يمكن إبداع عالم آخر».

وإذا كان مفكرو وخبراء الاقتصاد الرأسمالي يبذلون اليوم جهوداً حثيثة لإنقاذ النموذج الرأسمالي على غرار الجهد الذي بذله كينز وغيره في الثلاثينات مما يعكسه السيل العرم من الكتابات التشخيصية والاستشرافية التي ظهرت هذه الأيام، فإن تيار العولمة البديلة لا يزال هش التركيبة، غامض الخطاب النظري، بحيث يصعب الحديث عن حركة منسجمة أو ديناميكية فكرية بديلة.

والمعروف أن هذا التيار بدأ في الثمانينات بداية محتشمة في صيغتين: صيغة أيكولوجية لدى المجموعات المدافعة عن سلامة البيئة في أوروبا وأميركا، وصيغة اجتماعية لدى المجموعات المطالبة بإلغاء الديون التي تثقل كاهل البلدان الجنوبية الفقيرة. بيد أنه تعزز في التسعينات وشهد تظاهرته الكبرى في مدينة سياتل الأميركية عام 1999. ويتقسم تيار العولمة البديلة إلى أربعة مكونات رئيسية هي:

ـ التنظيمات الشيوعية والاشتراكية التقليدية التي انتكست بشدة من حيث الحضور في الحقل التمثيلي السياسي، كما انهار مشروعها الأيديولوجي الأصلي، ووجدت في الخطاب المعادي للنيوليبرالية إطاراً جديداً للتعبئة والتواصل مع الحركات الاجتماعية الخارجة عن إطار تحكمها.

ـ التنظيمات المدافعة عن سلامة البيئة التي تطور خطابها في السنوات الأخيرة من مجرد الوقوف ضد التلوث الصناعي إلى نقد جذري للنموذج التنموي الرأسمالي القائم على التراكم والنمو وتكثيف الإنتاج باعتباره مشروعاً لتدمير الطبيعة والسيطرة على الإنسان واختزاله في كائن مستهلك لا إرادة له ولا تحكم له في مصيره.

ـ النزعات القومية المتشبثة بفكرة السيادة وهوية الأمة في مقابل ديناميكية العولمة المهددة للكيانات الوطنية، وللثقافات الخصوصية من منطلق النجاعة الاقتصادية وضرورات ومقتضيات التبادل الكوني.

ـ النزعات المدافعة عن الثقافات المحلية وأنماط الحياة المهددة بالانقراض، التي نلمس حضورها القوي في بلدان أميركا اللاتينية.

ومع أن هذه الحركية لم تبلور خطاباً نظرياً منسجماً ومتناسقاً، إلا أنها تتغذى من روافد عديدة من أهمها: مقاربة الفيلسوف الإيطالي أنتونيو نيغري الساعية لتجديد المثال الشيوعي بأدوات فكرية معاصرة وبحسب تحديات العولمة التي يرى أنها تشكل فرصة جديدة للقضاء على الرأسمالية التي لم يعد لها قلب أو مجال حيوي ولم تعد تستند إلى طبقة اجتماعية مهيمنة، نقد عالم اللغويات الأميركي ناحوم تشومسكي للهيمنة الثقافية والإعلامية ودورها في صياغة الوعي وصناعة الرأي، إسهامات مدرسة السوسيولوجيا ما بعد الاستعمارية في نقد النماذج التنموية الغربية بصفتها تعبر عن مركزية ثقافية ضيقة وليس عن تصورات ورؤى كونية موضوعية (لهذه المدرسة حضور قوي في الهند وإفريقيا وأميركا اللاتينية). وقد يكون من المبرر ربط النماذج الاشتراكية الجديدة التي ظهرت في أميركا الجنوبية وأبرزها تجارب تشافيز في فنزويلا وإيفو موراليس في بوليفيا بحركة العولمة البديلة التي يدعيان بالفعل الانتماء إليها. بيد أنه من السابق لأوانه معرفة ما إذا كانت هذه التجارب الشعبوية الراديكالية تعبر عن تحول نوعي داخل الساحة الأميركية اللاتينية الأميركية أم هي مظهر من مظاهر أزمات التحول التي تعرفها هذه البلدان من الأنظمة العسكرية الشمولية إلى الديمقراطيات التعددية المستقرة.