قبل فوات الأوان

TT

أقولها وبكل فخر، وبلا أي نوع من أنواع الخجل، إنني لا أفهم «أي شيء» من كتابات وشعر أدونيس ولا أفقه في «لغة» يوسف شاهين السينمائية الخاصة، وإن خطابات ومؤتمرات حزب البعث العربي الاشتراكي هي أقرب لحفلات التعذيب النفسي المرعبة، وجميعها تحمل خطوطا مشتركة عن الحشو الفارغ الذي يشبهه البعض مثل مضغ الفوط القطنية لا فائدة منه سوى أنه يؤلم الفك. والكارثة الكبرى أن هذا النوع من الطرح كان يسمى «ثقافة» ولا أعلم ما الذي قدمته هذه الأمثلة سوى «الحكي»، ولكنه نموذج للجدل الفارغ الذي احتل الساحة الثقافية في العالم العربي لسنوات طويلة، وهذا الجدل انتقل إلى الأحزاب والحركات السياسية الدينية. فالمطلع على سياسات أحزاب مثل «أمل» في لبنان، و«الأحرار» في لبنان أيضا، وكذلك القوات اللبنانية، والكتائب، وطبعا حزب البعث، يجد أن معظمها يطرح نماذج غير واقعية للنهج السياسي المنشود محولا إياه «لأبواق» اعتراضية ليس إلا تشكل حيزا مهولا من «الإزعاج» السياسي وليس المعارضة البناءة، وما ينطبق على هذه الأحزاب السياسية ينطبق أيضا على الحركات السياسية الدينية. حركات مثل الإخوان المسلمين والجامية والسرورية والتكفير والهجرة والجهاد وغيرها.. جميعها لديها نفس الخط السياسي المبني على «فكر» ديني مسيس، فيها الغاية تبرر كل وسيلة، ولا توجد فروقات جوهرية بينها تفرقها عن بعضها البعض، فالجميع يسعى للوصول إلى سدة الحكم، وهذا هو الأهم. غياب الأرضية التشريعية السوية الموثقة في الدساتير الوطنية، التي تحمي حق المواطنة للجميع، هو الذي يتيح لهذا النوعية من الأحزاب والحركات الدينية بأن تطرح برامجها «الغريبة». غياب النضج السياسي نتاج القصور الواضح في المشاركة الشعبية السوية في صناعة القرارات السياسية والتشريعات السياسية هو الذي يؤدي إلى التقوقع والانعزال الكبيرين. المعركة القادمة على الساحة السياسية العربية هي في البرلمانات نفسها، التي لا بد أن تعكس هموم وتحديات شعوبها عبر تمثيل واقعي وجاد مع السماح بالتطرق للقضايا الحيوية والمهمة وعدم مهابة الحلول المقترحة مهما كانت صعبة ومفاجئة، لأن البديل سيكون هو المزيد من هذه الأصوات الغريبة التي تحتل الساحة السياسية نتاج هشاشة الوضع السياسي في البرلمانات العربية. اليوم ينتظر العالم العربي مناسبتين انتخابيتين كبيرتين في العراق، ومن ثم في لبنان، ولن يكون من المنطق أن يتم «الاكتفاء» بتقسيم الكعكة بحسب الحصص الطائفية فقط، دونما النظر إلى الكفاءة والمؤهلات والجاهزية. ويبدو جليا أن لا حل في العراق وفي لبنان (وقد يكون في بلدان أخرى من العالم العربي أيضا) سوى الفصل التام بين الدين والدولة واعتماد الحكم المدني كنظام أساسي، والابتعاد عن العقد المترتبة على نظام المحاصصة الطائفية التي لم تجلب للدول التي اعتمدتها إلا دمارا وخرابا. الحركات المتطرفة (بكافة أشكالها) باتت تتسيد الحراك السياسي وتحصد أصوات الشارع العربي باللعب على العواطف المستعدة لذلك. شعوب عربية نسبة الشباب فيها أكثر من 60% لم يعد لديها الجاهزية ولا النفس للاستماع «للعك السياسي» التقليدي الذي بنيت فيه الشرعية السياسية لكثير من الأنظمة العربية القائمة اليوم بعد اكتشاف فراغها التام وتناقضها الصريح، وعلى الحكومات معرفة ذلك والاستعداد لتغيير وإصلاح كاملين للمشاركة الشعبية السياسية، وإلا ستكون الغلبة للأصوات المتطرفة المتوترة. هناك تأجيج في قيعان الشوارع العربية وهو جاهز للتأجيج، ومن الممكن إخماد هذا الشرار بقليل من الحراك الاستباقي السياسي لتأمين مشاركة جادة ومحترمة بين الحكومات والبرلمانات والشعوب.

[email protected]