هل تتنحى حماس كما تنحى عبد الناصر بعد هولوكوست غزة!

TT

كنت في أحد المقاهي في واشنطن العاصمة، أتصفح الانترنت، أتابع أخبار المنطقة وهمومها، التي كنت أرجو أن أتحرر منها قليلا منذ بدء دراستي في الولايات المتحدة، لكني للأسف بت أكثر استغراقا ومتابعة لشئون وشجون الإنسان العربي، لماذا يصبح الإنسان أكثر تمسكا وتشبثا بجذوره وأفكاره ومعتقداته ومبادئه في الاغتراب، لست أدري. المهم أنه، وأثناء انشغالي بمتابعة مأساة المآسي العربية، وعروس المحن الإنسانية غزة، وضحاياها الأبرياء، الذين يتساقطون بالآلاف من دون أن نعرف أسماءهم، ومتى جاؤوا إلى الدنيا، وماذا أرادوا منها، وبم حلموا، وكيف وجدوا إقامتهم في غزة، وما رأيهم في العمليات التي نفذتها حماس ضد إسرائيل، أو هل كانوا يريدون الحرب، أم السلام، أم لقمة عيش نظيفة وكرامة فقط لا أكثر؟ كنت مستغرقة في تلك الأفكار، عندما كان تلفاز المقهى يبث مشاهد عبر «سي إن إن» من غزة، مليئة بالدماء وأشلاء الأطفال، وكنت أتابع المشاهد بذهول عندما صرخ أحد رواد المقهى الذي دخل ليتمتع بالإنترنت مجانا، ولم يطلب حتى فنجان قهوة من النادل، وطلب منه تغيير القناة، ففعل النادل وحول التلفزيون إلى مباراة في كرة السلة، انفرجت أسارير الزبون وانصرف النادل إلى شأنه، وأصابتني حاله من الغضب والإحباط في الوقت ذاته، وحسدت الرجل، وهو أميركي من أصل إفريقي، كل ما عليه فعله لتجاهل تلك المحنة الإنسانية ونسيانها تماما، هو تغيير المحطة، أما أنا، وكثيرون مثلي، تعذبنا وتشغلنا وتعيش فينا تلك المحنة، فتتبدل القنوات أمامنا، وتظل المشاهد هي ذاتها ملتصقة في عقولنا وضمائرنا ومناماتنا، ونشعر بالذنب، ولا نعرف من يجب أن يلام حقا؟ إسرائيل العدو الواضح، الذي نفهم تماما عبر المجازر العديدة التي نفذتها خلال 60 عاما أنها تبحث عن الذرائع لتنفيذ عمليات بهذه الوحشية؟ أم العدو الذي لا نعرفه، الذي يقدم دماء الأطفال والنساء قربانا لتوطيد سلطته وتوسيع نفوذه؟

فكرت.. ما قيمة سقوط جندي أو اثنين من إسرائيل، أمام هذا النزف البشري الهائل في غزة؟ وما تلك النتيجة الهائلة التي حققها الشعب الفلسطيني من المذبحة البشرية التي جرت للمدنيين والأبرياء العزل؟ ألم تعلم حماس أن رد إسرائيل سيكون بربريا ودمويا؟ خاصة بعد أن وجه رئيس الوزراء الإسرائيلي ووزير دفاعه نداء لحماس مرات عديدة بإيقاف صواريخها، وقال إن إسرائيل انتظرت من حماس أن توقف صواريخها على إسرائيل على مدى أسابيع، وإنها إن لم تتوقف، فسوف يكون ردها مدمرا وقاسيا، كانت «سي إن إن» تعيد إذاعة الخطاب مرات عديدة، في حين لم تتعامل حماس مع تحذيرات إسرائيل بجدية ومسئولية، ربما اعتقدت حماس أن تهديدات إسرائيل كانت من فئة قنابل نجاد الصوتية، الذي وجد منبرا له في الشقيقة الدوحة، التي نست أن إيران جارة لها طموحها الإقليمي المعروف، في حين أن الإمارات هي ضلع من ضلوع أبناء الخليج! أو أنه ممهور بتوقيع القيادة السورية، التي لم تطلق من حدودها الشاسعة مع إسرائيل رصاصة واحده منذ عام 67، ثم تشرب «حليب السباع» لتلقي كلمة تهتز لها رؤوس العرب طربا كما أغاني الست «أم كلثوم» رحمة الله عليها، ثم تنتهي الحفلة، وتنصرف لحراسة صفو الحدود مع إسرائيل!

في الحقيقة، حتى وإن انتصرت حماس انتصارا من طراز «النصر الإلهي»بقوة الآلة الإعلامية، يبقى عليها واجب تجاه أبناء غزة وأبناء فلسطين، بالاعتذار والتنحي عن السلطة، خاصة والإنسان العربي يتساءل الآن: هل ضحت حماس بدماء أطفال فلسطين من أجل فرض واقع جديد والقفز إلى مقعد السلطة الفلسطينية؟ ما المكاسب الحقيقية التي تحققت للشعب الفلسطيني على الأرض جراء الإقدام على قصف إسرائيل بصواريخها، خلاف مصالحها الضيقة لإضفاء الشرعية على حركة حماس وتعزيز نفوذها في القطاع؟ هل تستطيع حماس ادعاء الجهل بطبيعة الرد الإسرائيلي، ودماء ما يزيد عن ألف من اللبنانيين الذين سقطوا في حرب النصر الإلهي لم تجف بعد؟

هل باتت حماس كما حزب الله من قبل، يخوضون حروبهم من أجل تعزيز نفوذهم من جهة، وللتخفيف من الكثافة السكانية العربية؟ وسعر الصرف اليوم عند إسرائيل، كل إسرائيلي بألف عربي؟

لا أحد ينكر على الشعب الفلسطيني أو أي شعب آخر تحت الاحتلال مقاومة المحتل، لكن خيار الحرب يجب أن يتخذ وفقا للفلسطينيين أنفسهم، هل تم استفتاء الشارع الفلسطيني قبل القيام بتلك العمليات؟ وهل هو مستعد لتضحيات بذلك الحجم؟ وأي نوع من عمليات المقاومة يجب أن يتم لتحقيق نصر حقيقي ومكاسب حقيقية على الأرض للشعب الفلسطيني؟ هل المقاومة هي بإطلاق الصواريخ التي لم تحقق أي انجاز سوى على صعيد إعطاء الذرائع لإسرائيل، أم بغيرها من الوسائل؟ إن امرأة واحدة بحزام ناسف تستطيع أن تلحق خسائر بالعدو أضعاف ما استطاعت حماس تحقيقه من خسائر على الجانب الإسرائيلي، من دون أن تطلب الاستيلاء على السلطة! فكيف يمكن لحماس أن تتبجح بأي انتصار على دماء الفلسطينيين، على الفلسطينيين أنفسهم أن يحسموا أمرهم، فإن قرروا الذهاب إلى خيار المقاومة، فيجب أن يكون قرارا شرعيا يتخذه الشعب عبر آليات ديمقراطية، بشرط أن تكون مقاومة مدروسة تحقق انتصارا للإنسان الفلسطيني وتضعه في موقف تفاوضي أفضل، وليس انتصارا لفصيل من الفصائل على أشلاء المدنيين العزل والأطفال!

وربما يكون أول طريق الحل أن تعترف حماس بخطئها وفشلها الذريع في التعامل مع التهديدات الإسرائيلية، وتتنحى عن السلطة كما فعل الزعيم الراحل جمال عبد الناصر بعد هزيمة 67، ولتترك للفلسطينيين حقهم في تقرير أي مسار يريدون. هذا هو الحد الأدنى من المسؤولية الأخلاقية المطلوبة من حماس اليوم!

* كاتبة كويتية

[email protected]