المُمْهلون في الأرض.. قبل غزة وبعدها

TT

بِقَدْر ما يُثير الاستغراب الموقف الأوروبي عموماً من العدوان الإسرائيلي على الغزَّاويين وبالذات أولئك المنتشرين في مخيمات قطاع غزة، بالقدر نفسه نتمنى لو أن الخطاب «الحماسي»، وعلى نحو ما قرأناه بين سطور بيان صادر يوم الثلاثاء 27-1-2009 عن رئيس «حكومة غزة الحماسية» إسماعيل هنية، يتطور بنسبة أكبر قليلاً كونه إيجابياً ولمصلحة تحقيق خطوات على طريق اختصار المحنة وإزالة الكم الهائل من آثار العدوان.

أمَّا لماذا الاستغراب الممزوج بالأسى من جانبنا للموقف الأوروبي، فلأن دول الاتحاد الأوروبي عموماً لم تتصرف كطرف محايد في نظرتها إلى العدوان الذي استهدف الغزَّاويين، ومن أجل ذلك بات إلى حد ما كأنه الصدى للموقف الأميركي الذي اتسم بعدائية ملحوظة تجاه «حماس»، ربما لأنَّ جوهر الموقف الأميركي هو كذلك وربما لأن حمَّى الانتخابات الرئاسية وتسديد الفواتير فرضت على أكثرية رجال الكونغرس وعلى الرئيس أوباما والفريق العامل معه أن يكونوا كثيري الترفق بالمعتدي الإسرائيلي وكثيري التفهم لذرائع العدوان، وفي الوقت نفسه عديمي الرحمة، ونكاد نقول المروءة والضمير تجاه المعتدى عليهم، وكأنما لم يرَ هؤلاء ما فعلَتْه الصواريخ المحرَّم دولياً استعمالها بالألوف من الأطفال والنساء والشيوخ القابعين في منازلهم غير متوقعين أن يصل الظلم الدولي إلى ما وصل إليه. وإذا كان هذا الانحياز مفهوماً من السياسيين وأصحاب القرار الأميركي فإنه غير مفهوم على الإطلاق من جانب معظم رؤساء دول الاتحاد الأوروبي الذين كانوا مشغولي البال بمصير الجندي الإسرائيلي الأسير لدى «حماس» أكثر من اهتمامهم بالدم المُراق في شوارع غزة. وحتى في موضوع المساعدات الإنسانية فإن موقفهم كان خجولاً جداً. ولذا فإنه عندما ينتقد هنية قيام فرنسا بإرسال فرقاطة حربية لمراقبة إمكانية دخول السلاح إلى غزة ولا ترسل في الوقت نفسه مستشفى عائماً لتطبيب الجرحى والأطفال الذين حرقت وجوههم أو أجزاء من أبدانهم، الأسلحة المحرَّمة دولياً، فإن انتقاده في محله ويشاركه الانتقاد كل مُتجرد مثل حالنا.

وأما تمنياتنا بتطوير الخطاب من جانب «حماس» في شخص قائدها الميداني إسماعيل هنية فإنها تستند إلى ما قرأناه في البيان الصادر عنه والمتضمن المطالبة بتشكيل هيئة فلسطينية وعربية تتسم بالنزاهة والشفافية لمتابعة مشاريع إعادة الإعمار مع الجامعة العربية أو «منظمة المؤتمر الإسلامي» وأن حكومته في القطاع ستُسهِلْ عمل كل الجهات الحريصة على إعادة الإعمار. كما جاء في البيان أيضاً التشديد على أن حكومته «لا تحرص على تسلُّم أموال إعادة الإعمار ولا تسعى لذلك». وهذا الكلام وما تعنيه بعض المفردات قد يكون مؤشراً إلى أن هديل حمائم «حماس» سيعلو شيئاً فشيئاً على أصوات صقور الحركة وبالذات القيادات المغتربة، وخصوصاً صقر الصقور خالد مشعل الذي نقرأ بين سطور تصريحاته أن قضيته الأساسية الآن، ربما من منطلق التطلع إلى الزعامة المطلقة للشعب الفلسطيني وربما من منطَلق التزامه السياسي والثوري بوعود لها صفة الديون التي تحتمل الجدولة إنما غير قابلة للإلغاء، هي إسقاط الشرعية الفلسطينية الراهنة وذلك باستحداث «منظمة تحرير فلسطينية» رديفة يكون هو بطيبعة الحال على رأسها أو يختار من يمثّله خير تمثيل ليكون هو الرئيس على أن يكون الفعل للرأس. واللافت للانتباه أنه بعدما قال تسديداً لبعض الديْن السوري وهو يجتمع بالرئيس بشَّار الأسد في دمشق ما معناه إن للدعم البشَّاري حصة في «النصر الإلهي» الذي حقَّقته «حماس» في غزة من دون أن نعرف ما إذا كان الرئيس السوري، وخصوصاً بعد الخطوة الأولى النوعية على طريق المصالحة التي حدثت خلال قمة الكويت، يشاركه الرأي في أن النصر كان بالفعل «نصراً إلهياً».. إن اللافت أن خالد مشعل يكمل من الدوحة يوم الأربعاء 28-1-2009 وبعد اجتماع مع أمير قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني ما بدأه في دمشق فلا يرحب بمسعى المصالحة الفلسطينية - الفلسطينية إلاَّ على أساس «الثوابت الوطنية» ولا بالتهدئة الطويلة المدى وفق الشروط الإسرائيلية. ثم بعد هذا الرفض يبشر وعلى وقْع الإعلان في اليوم نفسه في طهران بأن الرئيس محمود أحمدي نجاد حليف الرئيس بشَّار والشيخ حمد للحالة «الحماسية» قرر الترشح لولاية رئاسية ثانية تنتهي في العام 2013، بمخطط يجري العمل عليه لاستحداث «منظمة تحرير فلسطينية» غير الحالية. وأما الذريعة فهي أن المنظمة الشرعية الراهنة والتي لن يمر دولار واحد مساعدة إلاَّ من خلال حكومتها لم تعد في رأي مشعل والفصائل السورية الهوى «تُمثِّل مرجعية الفلسطينيين وتحولت إلى إدارة لانقسام البيت الفلسطيني». ثم يتبين لنا سر الموقف هذا من خلال عبارة قالها وهي «إن ملف الإعمار ليس الخلاف على من يتسلم المال بل أن تصل الأموال لكل فلسطيني لا إلى الجيوب الفاسدة» مقترحاً أن تتم إعادة إعمار القطاع تحت إشراف الدول العربية المانحة. أما لماذا يقول ذلك فلأن ورقة الإعمار ستكون الأقوى بين الأوراق وبحيث أن من يتسلمها يصبح المرجعية الفاعلة في الوضع الفلسطيني كما أن عدم إمساك «حماس» بها كلياً كما يتمنى مشعل أو حتى جزئياً ستترك انطباعاً لدى الرأي العام الفلسطيني بأن «حماس دمَّرت والسلطة الوطنية عمَّرت». لكننا في الوقت نفسه نفترض أن هذا التلويح بـ «منظمة تحرير جديدة» من جانب خالد مشعل هو نوع من التناغم مع رغبة الرئيس نجاد في الاستمرارية التي تشكل المحنة الفلسطينية المتكأ الوطني لمن يريد أن يستمر في السلطة ويمارس اللعبة وتحميل رب العالمين أي كوارث على أساس توصيف الخسارة بأنها «نصر إلهي» كما ذريعة بوش المنصرف بأن عدوانه على العراق كان بإلهام رباني. معاذ الله من ذاك التوصيف وتلك الذريعة ومن توأمها الثالث «أم المعارك» الذي حاول الرئيس صدَّام حسين إقناع العراقيين وغيرهم به وعدم اعترافه بأن «أم المعارك» هذه لا تختلف كثيراً في نتائجها عن المحنة الغزَّاوية التي توَّجتها «حماس» بـ «النصر الإلهي» بعد المحنة اللبنانية التي كانت هي الأخرى «نصراً إلهياً» والمحنة العراقية التي جاءت في نظر رباعي العدوان على العراق: بوش الابن. بلير. برلسكوني. ازنار بفعل «إيحاءات إلهية» تم يتبين النفاق ويتأكد أن الله يُمهل ولا يُهمل. وقائمة المُمْهلين في الأرض عرباً وعجماً وأجانب وإسلاميين وفلسطينيين وإسرائيليين طويلة.. وعلى قاعدة من يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومَن يعمل مثقال ذرة شراً يره.