العراق: حان الوقت لمغادرة «التصرفات الطفولية»

TT

واحدة من العبارات التي اطلقها اوباما في خطاب التدشين والتي أخذت حيزا كبيرا من التعليقات في الصحافة الامريكية، هي دعوته الجميع للتخلي عن «التصرفات الطفولية»، وهي دعوة اراد بها ان يؤكد تبنيه للنهج غير الحزبي في إدارة الدولة وتجنبه للسلوكيات التقسيمية في مرحلة يعتبرها حساسة وحرجة للولايات المتحدة. وعلى نطاق واسع فهمت هذه العبارة على انها موجهة لأتباع اوباما أنفسهم لا سيما أولئك المحسوبين على اليسار الليبرالي الذين يريدون ان يستثمروا الانتصار على الجمهوريين في الانتقام من اليمين الامريكي، الامر الذي قاومه الرئيس الجديد سواء عبر تعيين ادارة جل شخصياتها محسوبون على الوسط، او في تخليه عن الخطاب الآيديولوجي نحو الرؤى العملية لمعالجة الازمات التي تواجهها امريكا.

الدعوة للتخلي عن «التصرفات الطفولية» تحدث في امريكا التي رغم كل ما قيل عن ازمتها الحالية فهي بالنسبة للواقع العراقي حلم بعيد المنال، امريكا ليست بلدا خرج للتو من الحرب الاهلية كما هو حال العراق، وهي ليست نظاما تأسس بالامس القريب على اطلال ديكتاتورية شمولية دمرت المجتمع عبر سياساتها القمعية ومغامراتها غير المبررة، وهي بلد لا تتنازعه الميليشيات والجماعات المتطرفة، ورغم تنوعها الفسيفسائي الا انها امة عرفت بكونها صاهرة للتنوعات وقابلة لاستيعاب مئات الآلاف من المهاجرين الجدد من ثقافات مختلفة سنويا، في الوقت الذي ما زال على العراقيين ان يتعلموا ادارة اختلافهم قبل ان يتعلموا ادارة خلافاتهم. ازمة امريكا هي في تحدي الحفاظ على تفوقها وازدهارها، أما أزمة العراق فهي في بناء دولة وامة وسط ركام الخراب والدمار والتخلف. لذلك لا بد من التساؤل بصوت عال: من الأحق بالدعوة للتخلي عن «التصرفات الطفولية»، نحن ام هم؟

اذا كان المقصود بالتصرفات الطفولية تلك التي يقوم بها قادة المجتمع من ساسة ومثقفين ورجال دين وشخصيات عامة، فان واحدة من استعصاءات العراق هي تمكن هذه التصرفات من الهيمنة على ميدان العمل العام والتسلل لأجهزة الدولة وللمؤسسات التي يفترض بها ان تقود البناء. ان شهوة الهيمنة والاحتكار والانتقام تكاد تصبح محركا اساسيا لسلوك الكثيرين الى حد اصبحت معه النظرة للامور بعقلية «الغنيمة» هي المهيمنة، ورهن «الوطني» بالشخصي والضيق سلوكا معتادا داخل الطبقة السياسية بل مختلف الشرائح القائدة للمجتمع. ما زال البعض يتصرف بمنطق المعارضة وهو في السلطة، ويقدم على ذات الممارسات الإقصائية والانفرادية التي كان ينتقدها سابقا، وما زال منطق «تقاسم المنافع» يهيمن على توزيع المسؤوليات والوظائف العليا بين الاحزاب الرئيسية بلا أي التفات لعوامل الكفاءة والاهلية. لقد بات مصدر الخشية الاساسية لدي هو ان تفشل الدولة بفعل خضوعها لهيمنة غير الأكفاء في الوقت الذي يتم عزل وتهميش واقصاء الكثير من الكوادر التي تتمتع بالخلفية الاكاديمية والخبرة العملية المؤهلة لتسلم مواقع المسؤولية الادارية. لقد جرى في السنوات الماضية خلط متعسف بين السلطة السياسية والدولة، وجرى استساخ التوافقات والتسويات الحزبية داخل الجهاز البيروقراطي والتكنوقراطي عبر منطق تغليب الولاء على الكفاءة، فصرنا بمواجهة مؤسسات يديرها اناس لا يمتلكون ابسط مؤهلات القيادة الادارية او التخصص ومحميون عبر ولاءاتهم الحزبية من المساءلة والمحاسبة.

هذه «التصرفات الطفولية» المدفوعة بمنطق الغنيمة ورغبة الاستئثار وبرهن المصلحة البعيدة المدى للوطن بالمصلحة الضيقة الافق لاصحاب النفوذ، إنما أدت إلى خلق جهاز دولة عاجز تسوده العلاقات «الزبائنية» المقترنة بصعود طبقة «اوليغارشية» تعمل على طمس الخطوط الفاصلة بين «المؤسسات» وبين البنى الحزبية والعائلية المتنفذة بطريقة تشبه الى حد كبير ما كان حاصلا في ظل النظام السابق مع الاختلاف في تعدد مراكز القوى الذي يضيف تفككا وتناحرا داخل البنى المؤسساتية ينعكس عليها عبر انتاج صراعات «غير مثمرة» تسهم في إهدار مزيد من الوقت والجهد والموارد بما لا يخدم المصلحة العامة. الامر امتد ليشمل حتى المؤسسات الموصوفة بالرقابية والموكل اليها مهمة المحاسبة اذ انها هي الاخرى اخذت تخضع لهيمنة العلاقات القرابية وتقاسم النفوذ بين مراكز القوى مما سلمها الى سلوكيات انتقائية يتم عبرها اخضاع مفاهيم المحاسبة والمسؤولية لذات التسويات والصراعات الموجودة في الحيز السياسي بعد ما حصل من تذويب للخطوط الفاصلة بين هذا الحيز والحيز القانوني - المؤسساتي، فشهدنا الكثير من غض النظر عن عمليات فساد كبرى مقابل الكثير من التوريط للابرياء غير المحميين بالعلاقة الزبائنية في اتهامات غير صحيحة وكيدية.

ألم يحن الأوان في العراق للدعوة الى ترك «التصرفات الطفولية»، الم يأت الوقت لطي صفحة التفريق على اساس مواقف سابقة او نقل الخلافات السياسية من ساحات الصراع الطبيعي (البرلمان والصحافة) الى المؤسسات المسؤولة عن توفير الخدمات، ألم يحن الوقت للكف عن اعتناق تصنيفات «زمن المعارضة» وايقاف زخم الأدلجة المفرطة في تقييم الآخر وبالكف عن تغليب عنصر الولاء على عنصر الكفاءة. ان دعوة رئيس الوزراء لاشاعة مفهوم «دولة القانون» لا بد وان تنطوي على تعامل مباشر مع هذه الازمة قبل ان تغدو معضلة تكرس العراق كدولة «فاشلة»، فلا يكفي لدولة القانون ان تكون الماسك الوحيد للسلاح بل هي بحاجة الى ان تكون الفضاء الذي تنتهي عنده هيمنة الصراعات والتوازنات السياسية وتبدأ عنده هيمنة المنطق المؤسساتي - القانوني. وبدون افتئات على حقيقة ان الخراب كبير وقديم ومتجذر وعصي، الا ان المعالجة لابد ان تبدأ بقرارات اصلاحية قوية وربما مؤلمة قد تطيح ببعض «الاصدقاء» و«الموالين» ولكنها قد تنتهي الى ربح «الوطن».