معتدلون وإصلاحيون أيضا!

TT

منذ كتب أفلاطون كتابه عن «القوانين» الذي شرع فيه للسياسة العملية حيث تنظم الجماعة حياتها من خلال قواعد ولوائح ونظم مستقرة، وليس المثالية التي تناولها في كتابه عن «الجمهورية» والتي بحثت عن مدينة فاضلة لا وجود لها، فإن القيم السياسية الخاصة بالاعتدال والحصافة والحنكة والفطنة باتت من أهم محددات النجاح في الحياة السياسية، بل إنها صارت هي أساس نجاح المجتمعات واستقرارها وقدرتها على تحقيق أهدافها. وبالنسبة للفيلسوف اليوناني، فإن ذلك كله كان أصل «الحضارة» حيث يمكن صناعة قوانين عادلة، وذلك مقارنة بجماعات تعجز عن صنع القانون فتعيش حالة بربرية تقوم على القوة الغاشمة، وسواء كانت هذه القوة مادية أو معنوية، تقوم على المال أو القوة المسلحة. وفي كل الأحوال فإن صناعة الحضارة، أو «القانون» كان يتعرض لنوعين من الخطر: عجز الحكام عن صناعة القوانين بحيث تكون مستجيبة للمتغيرات الجارية، وفي نفس الوقت فيها من الاستقرار ما يحافظ على دوام المجتمع؛ وعلى الجانب الآخر الاستجابة لأهواء الجماعة واللعب على عواطفها ومشاعرها الجامحة والتي تدفعها أحيانا إلى موارد التهلكة.

وبالطبع فإن هذا المقال ليس درسا في الفلسفة السياسية، وإنما هو عودة إلى الأصول والمنابع للحالة التي يعيش فيها العالم العربي، حيث تظهر الأزمات وجود أمراض عضال لا تبدو الجماعة العربية قادرة على تجاوزها. وربما لا يجسد تلك الحالة سوى ذلك المزاج من الاستنكار الذي يسري في قول معسكر الحنكة والفطنة العربي عندما تأتي صفة «الاعتدال» لكي تعبر عن معسكر عربي واسع القدرة والعدد، بل يشكل الغالبية الساحقة من العرب حيث يبدو الوصف كما لو كان صنوا للتفريط والتنازل والمساومة على الحقوق. ومن المدهش أن ذلك يحدث بينما معسكر «الاعتدال» العربي هو الذي يقوم بالعمل والحركة وحشد الجهود وتعبئة الطاقات الإقليمية والعالمية من أجل تحقيق أهداف محددة ومعروفة سلفا؛ بينما - على الجانب الآخر - يوجد معسكر «ثوري» يلعب على الأوتار الشعبية بشعارات غامضة لا تعرف لها لا أول ولا آخر، وهي تغطي كل الموضوعات، ولكنها من الناحية الثانية لا تغطي شيئا على الإطلاق حيث لا يبقى منها في النهاية إلا مجموعة من المظاهرات، والخطب الحماسية، ولكنها لا تحرك قضية، ولا تعيد حقا، ولا تقدم شعبا، ولا ترقي مجتمعا، وبالتأكيد لا تخلق حضارة. وربما كان عنوانها «الممانعة» يلخص الأمر كله حيث تشكل قيمة سلبية تمنع أمرا من الحدوث، ولكنها لا تحقق أمرا، تماما كما كان «الصمود والتصدي» في أزمنة قديمة حيث انتهى الأمر بلا صمود ولا تصدٍ ولا ممانعة.

وربما كانت أزمة غزة الأخيرة هي آخر الأزمات الكبرى في المنطقة والتي تجلى فيها هذا الانقسام في الصف العربي، ولكنها بالتأكيد لم تكن الأزمة الأولى، ولن تكون الأزمة الأخيرة. والحقيقة أن المنطقة العربية قد بات فيها بعض من الملامح الأوروبية خلال القرن التاسع عشر عندما انقسمت القارة بين أفكار «المعتدلين» التي استقرت في العروش الأوروبية، وأفكار الراديكاليين الذين انبثقوا من قلب الثورة الفرنسية يريدون قلب أوروبا والمجتمعات الأوروبية رأسا على عقب. وبالتأكيد كان كثيرا من الخلاف بين المعسكرين له صفات الجغرافيا السياسية التي تغير الحدود وتعيد تفصيلها تقسيما وتجميعا على مقاس «الدولة القومية»؛ ولكنه كان له علاقة أكبر بتغير المجتمعات نفسها وأنماط تفكيرها من التقليدية والمحافظة إلى الحداثة والمعاصرة. وكان الفارق كبيرا بين المعسكرين في كل الأمور، ولكنهما اتفقا على أمر واحد هو أن الأمور لا يمكنها أن تبقى على ما هي عليه لأنها كانت في النهاية تعبيرات عن أوضاع قرون سابقة تعداها الزمن، والتكنولوجيا، وأحوال الأمم والشعوب.

وبالطبع فإن التاريخ لا يعيد نفسه، ولا توجد منطقة في العالم مماثلة لمناطق أخرى، ولكن المقاربة هنا للتوضيح والشرح والتفسير، فلا يوجد شك أن هناك معسكرين في المنطقة، واحدا منهما يريد السلام والاستقرار والتنمية، والآخر يريد النضال والثورة حتى آخر الزمان. ولكن المدهش أن كلاهما ينطلق في هذا وذاك من الحفاظ على الأوضاع القائمة من حيث الهوية والخصوصية والشرعية الدينية. وبشكل من الأشكال فإن «الاعتدال» انجرف في اتجاه «المحافظة»، بينما ذهبت «الممانعة» إلى حيث الفوضى، وكلاهما أعداء لصناعة القوانين لأن الأحوال لا تبقى أبدا على حالها، والتغيير هو سمة الكون والخلق والمجتمعات.

ما جرى في أوروبا، وما نصح به أفلاطون من قبل، كان أن نجاح جبهة الاعتدال في تغيير الأوضاع الإقليمية، وانتصارها على النزعات الفاشية والثورية والبلشفية والنازية وحتى الفوضوية، لم يكن راجعا فقط إلى تكوين تحالفات إقليمية وعالمية ناجحة، وإنما إلى القدرة على إصلاح مجتمعاتها وتحقيق تقدمها ورفعتها بطريقة فاقت تكنولوجيا واجتماعيا وثقافيا واقتصاديا قدرة هذه الأخيرة على التطور. ورغم أن الراديكالية بأشكالها المختلفة قد تمت هزيمتها أحيانا في ميدان القتال كما جرى مع فرنسا الثورية وألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية، إلا أنه في أحيان أخرى جرت هزيمتها في مجال السباق على نموذج التقدم والتطور حتى انهار الاتحاد السوفيتي على قوته ومنعته وممانعته كما تنهار أبنية أوراق اللعب ودون طلقة رصاص واحدة. وفي أحيان أخرى، بينما كانت دول الاعتدال ناجحة في التعامل مع مشاكلها الداخلية، وتناقضاتها الاجتماعية، فإن المجتمعات الراديكالية سرعان ما انهارت من داخلها حيث انفجرت فرنسا إلى درجة استعادة الملكية، وتفكك الاتحاد السوفيتي إلى خمس عشرة دولة، وتبعثر الاتحاد اليوغوسلافي، وجرى ما جرى في العراق بعد صدام حسين، والصومال بعد اتباع زياد بري للمذهب الماركسي، والسودان بعد حكم الترابي، وأثيوبيا بعد الفترة الماركسية.

ما نطرحه هنا هو أن «الاعتدال» لا يكتمل في العصر الحديث إلا بالإصلاح السياسي والاقتصادي والثقافي وإلا تحول إلى نوع من المحافظة المقيتة التي تجمد المجتمعات وتدفعها أحيانا إلى الاستجابة إلى أهواء الراديكالية. وفي العصر الحديث، فإنه لا توجد مجتمعات معزولة عما يجري في العالم من أشكال كثيرة للتغيير والتقدم؛ وفي مجتمعاتنا العربية هناك عدد من المتغيرات التي لا يمكن تجاهلها وقد اقتربنا من العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين. فهناك حقيقة أننا أمة شابة أغلبيتها من صغار السن الذين أتيحت لهم من فرص السفر عبر المكان والزمان من خلال التعليم وتكنولوجيا الكومبيوتر وإمكانيات السفر ما لم تحصل عليه أجيال سابقة. هذا الشباب الفائر طاقة ضخمة لا بد من استيعابها وتعبئتها في اتجاه تغيير سلمي لا يمكن تجاهله، وإلا أهدينا لقوى الفوضى وقودا ضخما وجاهزا للاشتعال إذا ما جرى تقاعس في وضع هذه الأجيال الجديدة على طريق الاعتدال هي الأخرى. وهناك حقيقة أخرى أن نظم الحكم لدينا قد أدت أغراضها التي حتمتها فترة الحصول على الاستقلال، والتعامل مع ظروف الحرب الباردة، كما أنها بحق عرفت في كثير من البلدان كيف تحافظ على هوية متميزة عربية كانت أو معبرة عن كل بلد عربي على حدة؛ ولكنها في بلدان أخرى عجزت عن تحقيق ذلك بسبب تقاعس النخبة المعتدلة أحيانا، وبسبب مطاردة الاتجاهات الراديكالية لها أحيانا أخرى. وهناك حقيقة ثالثة أن العالم يطل علينا بأشكال طبيعية أحيانا من خلال التكنولوجيا، وبأشكال قسرية أحيانا أخرى من خلال السياسة كما جرى أثناء قيادة جورج بوش للإدارة الأمريكية.

لقد تغير الوضع الآن، ولم يعد هناك جورج بوش ولا مجموعة الثمانية، ولكن ذلك لا يلغي أبدا الحقائق السابقة التي تجري الاتجاهات الراديكالية في اتجاهها مستغلة القضية الفلسطينية أحيانا، والعجز عن الإصلاح أحيانا أخرى. ومن تصور أن المشكلة كانت في واشنطن، فإن عليه النظر تحت أقدامه لكي يكتشف أن المسألة برمتها توجد بين يدي النخب العربية في عواصم الاعتدال والتي عليها ألا تجعل من المفهوم صنوا للتعامل مع القضية الفلسطينية وحدها، وإنما تجعل المفهوم مع الإصلاح فكرا متحركا لتغيير الحقائق الاجتماعية والسياسية القائمة. ولعل الجرس الذي يدق الآن يصوغه السؤال كيف نفعل ذلك، تلك هي المسألة؟!.