مخافة الله

TT

من اللوحات الشائعة في معظم الحواضر العربية لوحة تقول «رأس الحكمة مخافة الله». طالما شاهدت هذه اللوحة في الدكاكين والمطاعم والمساجد والبيوت والمحلات العامة في بغداد. بالطبع لا يلتزم بها الكثيرون ممن علقوها. يكفينا أن نتذكر كل هؤلاء الذين أداروا ظهورهم لما جرى للمسلمين في غزة. ولكن اللوحة كانت هناك وما زالت. وأعتقد أن لها مثيلها في معظم اللغات الأخرى. بيد أنني رأيت في هذه الأيام لوحة مغايرة تحملها بحروف كبيرة باصات لندن، وهي تقول: «لا تخش شيئا واستمتع بالحياة». لهذا القول جانب سلبي، هو أنه طالما لا وجود للعقاب، فافعل ما تشاء. وهذا بالضبط ما فعله أحد الشبان الإنجليز في نفس هذه الأيام. يظهر أنه قرأ اللوحة في طريقه إلى البيت.

هجم هذا الشاب في منطقة بينر بلندن على امرأة عجوز في الواحدة والثمانين من عمرها، وأرداها طريحة على الأرض وقد ارتطم رأسها بحجر الرصيف، ثم خطف محفظتها وهرب. نقلوها للمستشفى ولكنها ماتت في الطريق. كان هذا الشاب في حاجة لبعض الفلوس ليشتري بها بعض المخدرات ليستمتع بها على نحو ما قالت له تلك اللوحة التي تحملها باصات لندن بفخر واعتزاز. لا تخش شيئا وتمتع بالحياة! لا عجب أن يرفض أحد السائقين قيادة أحد هذه الباصات التي تحمل هذا الشعار. قال كيف أقود هذا الباص وبين الركاب من تجاوزت سنه التسعين عاما؟

كل ما في المجتمع الغربي من متع الحياة الدنيا يقوم على التبضع والاستهلاك ولكل شيء ثمنه. ما الذي يفعله من لا يملك في جيبه ثمن استمتاعه بالحياة؟ أقول ذلك وأتساءل في الوقت الذي تجاوز فيه عدد العاطلين في بريطانيا مليوني نسمة، ونحن ما زلنا في بداية الطريق، بداية هذه الأزمة المالية الخانقة.

الكثير من اللادينيين، أو من يسمونهم بالإنسانيين (هيومنست)، تحولوا من الإيمان بالله إلى الإيمان بالإنسان، ونقلوا محبة الله إلى محبة الإنسان وخدمة الإنسان. بيد أننا نواجه الآن ضربا من المخلوقات لا تؤمن بالله ولا بالإنسان. إلهها الوحيد الذي تقدسه هو الدولار، أو الباوند أو اليورو، الذي تشتري به متع الحياة، أو بالأحرى ما تتصور أنه متع الحياة. الخدمة الوحيدة التي تعرفها هي ليست خدمة الإنسان أو خدمة الخالق، وإنما خدمة أنفسها في جشعها وجريها وراء ملذاتها. المخافة الوحيدة التي تخشاها هي ليست مخافة الله وإنما مخافة مفتش الضريبة والوقوع في مرض الإيدز.

راحت عولمة الاقتصاد العالمي تسير جنبا إلى جنب مع عولمة الفساد، فساد المرأة، فساد الساسة، فساد المفكرين والكتاب ورجال الدين، وفساد البنوك والأسواق.

www.kishtainiat.blogspot.com