هل تنشب الحرب الخامسة بالمصادفة؟

TT

مطاع صفدي مفكر مقروء لدى النخبة الثقافية. لكنه يصر على أن يكتب إلى جمهور لا يقرؤه في الصحافة الدارجة. وقد كرس شبابه ومطلع كهولته في الإسهام في تجنيد طلبة الثانويات السورية بتلقينهم عروبة حزب البعث. وكسائر الرواد من مثقفي البعث، فقد غادر مطاع القومية البعثية إلى القومية الناصرية، ثم إلى القومية القذّافية، ثم إلى القومية الصدّامية.

لاقى مطاع كمفكر ومثقف وسياسي الأهوال، فقد دخل السجن، وما يغفر له أن هذه التحولات النشيطة ظلت تدور في دائرة القومية العربية. فالرجل لم يخلع رداءه القومي، وهى ضمنت له موردا ثريا ينفق منه، في تقتيره الشديد، على حياة مريحة في باريس.

لست من طلبة الأستاذ مطاع، إنما أنا من قرائه على الرغم من صعوبة قراءته، فهو ممعن في التحليل والتنظير. أذكر أن مطاع أصدر في المنفى بعدما تجاوز السبعين مجلة فكرية شهرية (نسيتُ اسمها، ربما كان «الفكر المعاصر» أو شيئا من هذا القبيل) لمكافحة الموجة الارتدادية التي طبعت حركة الجماعات الدينية المتسيّسة.

كل هذا كان مقبولا ومفهوما من مفكر ثري الثقافة، لكن مطاع صفدي فاجأني أخيرا بتحول جديد طارئ عليه وهو يعبر الخامسة بعد الثمانين. علّي آمل في أن يكون هذا التحول نتيجة لما يطرأ على الفكر والعقل من وهن بعد الإيغال الشديد في العمر، وليس نتيجة لما أصاب بعض المثقفين والصحافيين والكتّاب من الدعاية الإيرانية.

لجمهور الصحافة الذي لا يقرأ المفكر السوري مطاع صفدي، أقدم نموذجا واحدا لفكره القومي والحداثي، في كفاحه ضد العامية الدعائية للحركات الدينية. كتب مطاع في عام 2000 يقول: «العقل العامي وليس العقل العقلاني هو الذي يسارع إلى اختطاف العلم وقيادة الرأي العام».

ويمضي مطاع آنذاك محذرا من الخطاب الإعلامي الاهتياجي (الذي بات الآن نهج إيران والحركات الدينية العربية المرتبطة بها وصحافييها وكتابها) فيقول : «الاستقلال الفكري خط دفاعي أخير، لا خيار للعقل العربي الجديد سواه على صعوبته الكبرى». ثم يناشد «الوعي العربي أن يفكر بأدواته الخاصة، وأن يقلع عن عادة استعارة الأنظمة (الفكرية) الواحدة والخطابات الجاهزة».

كان موضوعه حينذاك تحت عنوان «العرب أكثر أمم العالم المعاصرة استهدافا للتطويع والانصياع». آه! ما أقسى العمر علي الذاكرة! أو بالأحرى، ما أشد الانحدار على المثقف والمفكر العربي عندما يحاول ركوب الموجة الفارسية ملغيا ماضيه، تضامنا مع عروبة وحداثية طروحاته.

أعتذر للقارئ الملول إذا ما قدمت مطاع صفدي المتحول كأنموذج لما يكتب ويروّج أمثاله الذين فقدوا البوصلة الفكرية. يقول مطاع نسخة 2009 تحت عنوان «لماذا يخافون من القمر الإيراني» منبهرا بانبلاج الثورة الارتدادية في إيران: «كأنما رأى الناس آنذاك في شخصية الخميني عبد الناصر جديدا»!

يصل المثقف مطاع في دفاعه المفاجئ عن الهجمة الفارسية على العرب إلى حد اتهام النظام العربي بـ«تفجير إسلام المجتمعات العربية مذهبيا» لخدمة مشروع أوباما الرديف والمكمل لـ«مشروع بوش» في «إعادة إحياء الشقاق المذهبي على مستوى دول المنطقة»!

هل هناك ظلم أشد من هذا الظلم العربي يمارسه هذا المفكر، بعدما أمضى حياته في الدفاع عن عروبته وأمته؟ بل ينفي مطاع عن الفرس النزعة «الشعوبية» التي عانت منها أمته تاريخيا. ينسي أن القائد الفارسي الذي تكنّى باسم طاهر بن الحسين هو الذي سبق هولاكو في إسالة دم بغداد العروبة، تحت أعلام «الشعوبية».

يختتم المفكر مطاع صفدي التعبير عن تقلّبه المتناقض مع فكره التقليدي، فيسند إلى إيران مهمة المشاركة في «صنع الحضارة العربية الإسلامية»، بعد تأكيده السابق على الاستقلال الفكري للعقل العربي. ولا ينسي أن يتغزل بالقمر الصناعي الإيراني. هو يعتبره «فاتحة عهد لانتظار شمس الحرية لشعوبنا العربية الإسلامية»!

«يا امّه القمر على الباب»! رحم الله فايزة أحمد، فهي لم تدرك صحوة المفكر. من حسن حظ مطاع أنه غير مقروء، كما قلت، وإلا كانت فضيحة تناقضاته الفكرية مجلجلة. آمل أن تكون مجرد «تخاريف» العمر، أكثر مما هي لحاق بـ«موضة» ركوب الموجة الفارسية.

أنموذج آخر لركوب الصحافيين والكتّاب العرب بساطَ الريح الإيراني هو ما يكتبه العزيز فهمي هويدي في الصحافة المصرية.

أنا شديد الأسف، فهذه هي المرة الأولى في حياتي الصحافية التي أتعرض فيها لصحافي وكاتب زميل. وعذري أنى أتناوله كمثال لا كزميل. أقدمه مثالا على ضعف الانتماء لدى لفيف من كتاب مصر وصحافييها، متحمسين ومقلدين لغوغائية الخطاب الإيراني.

نعم، هناك «وعي عربي مخطوف» تماما كما قال العروبي مطاع صفدي قبل عشر سنوات. هذا الاستلاب الحادث بعد عشر سنوات واقع تحت تأثير الانبهار الشعبي بهزائم في غزة ولبنان، قُلبت انتصارات بفعل تسخير آلة الدعاية الإيرانية للفيف من الكتاب والصحافيين، بمن فيهم مطاع صفدي.

غير أن الخطر في هذا الاستلاب لوعي الشارع العربي يكمن في أن هذه الآلة الدعائية تهيئ هذا الشارع للتحمس لحرب عربية إسرائيلية جديدة، دون أن يعرف أن إيران وسورية والتنظيمات المرتبطة بهما غير مستعدة أو مهيأة عسكريا وميدانيا لمواجهة أعباء حرب نظامية وميدانية وجها لوجه، بدليل أن حماس اختفت في غزة ولم تقاتل (الضحايا 48 حماسيا باعترافها و1300 مدني بريء).

ما من عربي بقي مخدوعا بأسطورة «الجيش الذي لا يقهر»، رغم الهجمة الصهيونية الأولى التي أقامتها وحققت نصرها في حربي النكبة والنكسة. إسرائيل اليوم في موقع الدفاع لا الهجوم. لكن في المقابل فبشار يعرف أن قواته المسلحة وقيادتها الهرمة لا تقوي على المواجهة. الدليل منع بشار لحسن حزب الله من الانصياع لأوامر إيران بالاشتباك مع إسرائيل. ويقال إن بشار وبخ خالد مشعل على إحباطه مشروع التهدئة قبل حرب غزة.

إذا كانت الحرب صعبة في المناخ الدولي والإقليمي السائد بعد وصول أوباما، فالسلم يبدو أصعب. النظام العربي ليس مستعدا للانتحار بمصافحة غلاة المتعصبين الذين كسبوا الانتخابات في إسرائيل، أو الذين تلطخت أيديهم بدماء غزة.

خسرت إيران فرصة إشعال حرب نظامية، لكنها لن تقدم فرصا عبر حلفائها وأعوانها لإشعالها بالمصادفة. أيضا، الآلة الدعائية الإيرانية تبذل كل جهد عبر الهيمنة على الوعي الشارعي المخطوف للضغط ولتوريط النظام العربي في مواجهة غير متكافئة مع إسرائيل. النظام العربي لن يتورط كما ورطت سورية مصر عبد الناصر في حرب النكسة.

ولن يتورط في حرب يقلب الغرب فيها هزيمة إسرائيل إلى نصر فوري، كما حدث في حرب أكتوبر.