ماذا صنع الملك عبد الله؟

TT

لا حديث للسعوديين هذه الأيام إلا حديث التغيير، والتجديد، والتطوير، بعدما أطلق الملك عبد الله بن عبد العزيز سربا من القرارات والنقلات الكبيرة على خريطة العمل الإداري والقضائي والخدماتي والقطاع الديني المؤسسي.

حقا، لقد فاجأ الملك أبناء شعبه بهذه الحركة الكبرى، وضخ دماء النشاط في الجسد السعودي العام، لأن التغيير هو سر ديمومة الحياة، فلولا أن خلايا الجسد تغير نفسها باستمرار وتنمو وتتجدد، لتداعى الجسد وهرم بسرعة، هذه سنة الحياة ولن تجد لها بديلا.

التغيير بحد ذاته مفيد ومنشط ومحفز، فكيف إذا كان تغييرا ضروريا ولازما في عصر لم يعد فيه مكان للمسوفين أو المترددين، أو الذين ينتظرون أن يأتيهم الزمان بالحل، بينما الزمان لا يأتي إلا لمن يكون جاهزا لاستقبال الزمن الجديد.

الحديث طويل ومتشعب في قراءة هذا التغيير الذي انطلق نهار السبت الماضي مع هذه القرارات المهمة، هناك الحديث عن تعيين امرأة في أعلى منصب حكومي في التاريخ السعودي وهو منصب نائب وزير، وهناك الحديث عن تسمية من يتولى المواقع القيادية الجديدة في مؤسسة القضاء بعد أن هطل عليها مطر التغيير والتطوير، بمشروع الملك عبد الله لتطوير مرفق القضاء، وهو مشروع تأسيسي كبير، تحقق منه جانب مهم وبقيت جوانب أخرى، وهناك الحديث عن أسماء جديدة في سدة القيادة الوزارية في حقائب الإعلام والثقافة، والصحة، والعدل، والتعليم. وهناك شخص جديد قادم من خلف الصفوف الجدلية الإشكالية تتولى رئاسة الجهاز الأكثر إثارة للجدل في داخل السعودية وخارجها، جهاز الأمر المعروف والنهي عن المنكر. وهناك بطبيعة الحال الإضافات والتطعيمات التي حقنت بها هيئة كبار العلماء، أعلى هيئة دينية في السعودية.

أستطيع بشكل مقتضب أن أشير إلى أن التغيير في الدرجة الأعمق مس الجسم القضائي والحقل الديني المؤسسي، أعني النشاط الديني الذي يتمثل على هيئة مؤسسات رسمية، ثم مس هذا التغيير الجسم التعليمي، من خلال تغيير كامل الطاقم القيادي، حيث رحل وزير التعليم الأسبق مع نائبيه، وحل وزير جديد بثلاثة نواب.

أما باقي التغييرات فهي إحلال وزير محل وزير، أو رئيس محل رئيس، وهي مهمة لمعنى التجويد والتطوير في الخدمات، وتكفي هذه الأهمية التي ينتظرها الجميع بمجرد حلول وزير جديد.

للتركيز على الفكرة الرئيسية في هذا الحدث التدشيني في مفتتح هذه المرحلة أقول: إن العلاقة بين الدين والدولة في السعودية علاقة وثيقة وذات طابع خاص فعلا، فكلنا يعلم أن السعودية دولة حاضنة للحرمين المكي والمدني، وهي مقصد الحجاج المسلمين من كل أنحاء العالم في كل عام، هذا من ناحية السمة الدينية السعودية الخارجية، أما سمتها الدينية الداخلية فهي في عقد التأسيس وفي ما تقوله وتلخصه رواية الوجود السياسي الفعلي ومسوغ الاجتماع السعودي الذي قام على تحالف الدعوة والدولة وخدمة الاستمرارية الدينية الدعوية على نهج الشيخ والأمير. كان هذا حديثا في الماضي التليد التقت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب مع إمارة الأمير محمد بن سعود، فكانت بدايات الدولة السعودية، جرى ذلك اللقاء التأسيسي في (1157هـ/ 1744م) لكن الأيام والسنين حافلة بالجديد والصعب من التحديات، وما كان تحديا للأجداد، ليس بالضرورة أن يكون تحديا للأحفاد، كان تحدي الأسلاف في بناء نواة الاجتماع السياسي وإعمار هذا الاجتماع على عمود العقيدة المحدد والحرص عليه حتى لا تتهاوى خيمة المجتمع، لكن المجتمع بني، وصلب عوده، ومر بكثير من التحديات والتهديدات الخارجية والداخلية، من غزو خارجي، استمر من حملات محمد علي باشا، إلى غارات عبد الناصر وجيوش صدام حسين، ومر هذا الاجتماع بتحديات داخلية متنوعة، مرة كانت بنزعات ثورية يسارية أو قومية، أو بنزعات دينية تزايد على الخطاب الديني القائم، لكن سفينة الاجتماع السعودي نجت من كل هذه الأمواج والأعاصير واستمرت تبحر وتمخر المياه البعيدة.

الاجتماع السعودي صلب ومتين ولم تزده التحديات إلا صلابة ومتانة، لم يعد النقاش الآن عن هوية الدولة والمجتمع، فهو مجتمع سعودي مسلم عربي، وقدمت الإسلام على العروبة عمدا، وأنا هنا أصف وأشخص، مهما ضج أنصار الطرح الأصولي أو القومي وشككوا بجدارة الدولة السعودي أو المجتمع السعودي بشرط الوصف الإسلامي أو الانتماء العربي، فكلها اتهامات مثل أثر أرجل الطيور البحرية، تذهب بمد ضئيل من البحر يعيد رسم الشاطئ بلا خدوش من الكائنات الصغيرة.

التحدي الأكبر لهذا الاجتماع السعودي، منذ أن اكتشف البترول، هو بناء الإنسان السعودي المعتدل والمنتج والواثق، الإنسان السعودي الذي يحول ناتج الثروة النفطية إلى صيغ دائمة من الوعي والإبداع الاقتصادي والتنموي، الإنسان السعودي ليس معطوبا في عقله أو ثقافته، كما يروج بعض من لا يرى في السعوديين إلا تطرفا دينيا أو تعصبا اجتماعيا، أو إسرافا في المجون، أبدا، الإنسان السعودي الذي يمتد من صحارى الشمال إلى جبال الجنوب، من البحر الشرقي إلى البحر الغربي، مرورا بإنسان الوسط، حافل بالآمال والأحلام والمغامرات، خاصة أن النسبة الكبرى من السكان هي من شريحة الشباب.

أسئلة السعوديين، أو لأكون دقيقا، السعوديين الجدد، هي أسئلة المستقبل والتعليم والتنمية والشفافية والمحاسبة والانفتاح، ولا أظن أن أكثر السعوديين مشغولين بـ: هل الدولة تطبق الشريعة أم لا، هم يعرفون تماما أن هذا سؤال فارغ، لأنهم أصلا لا يستطيعون ولا تستطيع الدولة إلا البقاء ضمن حضن ورعاية الإسلام، فهو ذاكرة وحاضر الناس ومعقل هويتهم.

الدولة المسلمة القوية هي التي تفلح في ضبط الإيقاع العام في العلاقة بين الدين والدولة، بما يخدم الهوية العامة، ولا يضيع نصيبه من الدنيا، كما لا يمزق ثقافته الخاصة، أما ترك الأمور تحل نفسها بنفسها فهو من أخطر الأشياء التي يمكن حدوثها، لذلك كانت الخشية في الفترة الماضية أن يحاول بعض الخاضعين لهوى المزاج المتشدد أن يشذ عن الإيقاع العام، باسم الدين، وكم رأينا من فتاوى غريبة وشاذة، صادرة من شاب مستعجل أو شيخ لا يتمتع بصفة رسمية، وليست مرة أو مرتين، وفوق هذا رأينا من يحول دوره إلى دور المعطل، بدل أن يكون دور المشجع على «التجديد» الذي هو مفهوم إسلامي أصيل ومطلوب. كان لزاما إذن إعادة ضبط هذا المجال.

ضبط المجال الديني، مفيد لهذا المجال الديني، ومفيد للمجال السياسي، والاثنان مفيدان للمجتمع أيضا، لذلك رأينا رجال فقه ودعوة وعلم ديني وقضاء، ممن عينوا في مناصب المجال الديني الجديدة، يتحدثون بلغة متناغمة مع حس المسؤولية.

مثلا، طالعنا كلام الرئيس الجديد لهيئة الأمر بالمعروف الشيخ عبد العزيز الحمين الذي أكد فيه من على شاشة العربية أن الهيئة تحت إدارته «ستسير على مبدأ حسن الظن، وأن الأصل أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته».

وأشار في حوار مع صحيفة (الاقتصادية) الأحد الماضي، أن رجال الهيئة «لن يكونوا غلظاء على الناس».

وقال وزير العدل الجديد محمد العيسى للعربية «التعديلات الجديدة تدل على حرص خادم الحرمين الشريفين على التنويع الثقافي في المملكة».

وبشرنا الشيخ صالح بن حميد رئيس مجلس القضاء الأعلى بعهد قضائي جديد، وبأن الباب مفتوح للمؤهلين القانونيين إذا مروا بتدريب شرعي معين.

أما هيئة كبار العلماء، فرغم أن الإضافات والتطعيمات الجديدة جيدة ومفيدة، فإنني أرى أن الأهمية في الإشارة للمذاهب السنية الأربعة في تكوين الهيئة تكمن في كسر الحاجز النفسي وتعويد المتلقي السعودي على التعددية كمبدأ عام، لأن المذاهب الفقهية بشكلها ومدرسيتها القديمة، لم تعد بذلك التأثير السباق أيام عز الأزهر والزيتونة والمعاقل الذهبية القديمة، فقد أصبحنا، مع بروز الإسلام السياسي الحديث، أمام فقه جديد وطرح جديد، لا هو برصانة القديم، ولا هو برشاقة الجديد، أصبحنا أمام تمرد فقهي، مواز للتمرد السياسي والاجتماعي، غير أن تلك قصة أخرى.

ما جرى في السعودية هذه الأيام، هو تجديد وضبط وإعادة تنشيط للدماء، تلك هي العناوين العامة، وأهم هذه العناوين التي سطرتها يد الملك عبد الله، هو إعادة التأكيد على توحيد الجهد وتناغم الأصوات بين السياسة والدين في عهد سعودي جديد، كما نرى، آملين الديمومة والمزيد.

[email protected]