عشبة الخلود ليست في «دلمون»

TT

في ملحمة جلجامش، تصل رحلة البحث ببطلها من ضفاف «أوروك» إلى البحر، ثم إلى جزيرة دلمون، أو جنات عدن السومرية كما في الخيال القديم، حيث النخيل والماء العذب والناس الطيبون، والحمل يرعى مع الذئب، والعيشة المثالية، وصاروا مضرب الأمثال في عنايتهم بنخيلهم، مصدر الثروة ومرتكز الارتباط بالأرض والتجذر فيها، حتى جاء في بعض الأمثال السومرية: «يدللون ملوكهم كما تدلل نخيل دلمون».

جلجامش في رحلة البحث عن عشبة الخلود، بعد فجيعته بموت صاحبه أنكيدو، وصل إلى دلمون (البحرين حاليا)، وغاص في مياه بحرها، وعثر على العشبة، عشبة الخلود والشباب الدائم، لكنه بعد خروجه من القاع عرف أن لا خلود حقيقي، إلا بالشكل المعنوي، وحسب بعض الروايات لدغته حية فمات.

هذا ملخص الملحمة العراقية الخالدة والقديمة، يحسن تذكرها في أثناء هذا الاحتدام في الجدل الخليجي مع إيران، بسبب تصريحات أناس مقربين من المرشد خامنئي، أمثال ناطق نوري وشريعتمداري، عن أن البحرين، هي جزء من التراب الإيراني.

هل يكون الملا الإيراني، هو جلجامش القديم، الذي اكتشف وهمه ولقي مصيره وهو يركض بين نخيل البحرين ويسبح في مياهها بحثا عن عشبة الخلود؟

دلمون القديمة أعطت العبرة لجلجامش وغيره من الأقوياء وملوك ذاك الزمان السحيق، وقالت لهم إن الإسراف في الخروج عن حدود المنطق وأفق القوة يلقي بصاحبه في الفراغ والفناء، فهل تكون البحرين الحالية، حفيدة دلمون القديمة، على الميعاد، وتكرر الدرس مع جلجامش الإيراني الذي يبحث عن عشبة خلود لحياة ثورته الخمينية؟

التاريخ يعلمنا أن للقوة حدودًا وأن من أسباب انهيار الإمبراطوريات أو النظم الثورية التوسعية هو الخروج عن حدود القوة، لأن كل شيء إذا زاد عن حدة انقلب إلى ضده، وفي صدام حسين، فارس العرب، وحامي البوابة الشرقية، كما كان يقال له، درس وعبرة كبيرة، فلو أن صدام اكتفى بحدود قوته، وقد كانت حدودا مترامية، لكان الآن أثقل وأهم قوة عسكرية وسياسية في المنطقة بعد إسرائيل، ولكنه وفي تقدير قاتل وطئ على خط القوة الأخيرة له، وتجاوز هذا الخط، فانفجرت تحت قدميه ألغام المصالح والتاريخ والهواجس من غاز جديد.

مشكلة القوة هي في تجاوز نفسها، وميزتها هي في البقاء ضمن حدودها، أما إعجازها فهو في ملامسة الحد الأقصى لها دون تجاوز هذا الحد.

بعبارات أكثر مساسا بالواقع الحالي، والمثال الذي نحن بصدده، إيران بلغت حدا من القوة إلى الدرجة التي مكنتها من أن تحكم لبنان بشكل غير مباشر من خلال حزب الله، أو إذا أردنا التواضع في التوصيف نقول تمسك بأمن لبنان وسلمه وحربه، وفي العراق فعلت ما فعلت وإن كانت الرياح الآن تميل عكس السفن الإيرانية، أما في الخليج، وهذا هو الجديد، فهي قد جربت العبث الأمني وعرض القوة الإرهابية في مناسبات سابقة في الثمانينات أو التسعينات عبر أعمال إرهابية نفذتها خلايا تأتمر بأمرها وتتلقى الدعم منها، سواء في المنطقة الشرقية السعودية أو في مكة. لكن هذا العرض الإرهابي انتهى أو طويت صفحته، على الأقل حاليا! مع تغير الظروف السياسية والإقليمية، وبقي فقط التحريض الإعلامي والتعبئة المستدامة ضد عدو وهمي يشحن له الشباب المتعاطف مع دعاية إيران على غير هدى.

الخطوة التي صدرت من إيران عبر التصريح بالكفر السياسي بضم البحرين أو التلويح بذلك أو الإشارة إلى أحلام ومطامع تتعلق بالماضي، هذه الخطوة هي الأخطر، وهي التي ستوحد الصف الخليجي، أو يفترض بها ذلك إذا كنا ما زلنا نحتكم إلى لغة المصالح لا المناكفة الفارغة، وتجعل المترددين في مجابهة الغزوة الإيرانية الكبرى يفيقون من الأوهام ويعرفون أن درب السلامة يكون غالبا بالمواجهة لا بالهرب و«الطبطبة»، لأنك تتحدث عن حماية ذات ووجود ومعنى، وهي أشياء لا تقبل المساومات. ومن هنا أصلا جاءت فكرة مجلس التعاون الخليجي، ليضم هذه الدول التي يتكون أغلبها من مساحات صغيرة وسكان قليلين، لكنهم بتضامنهم وتوحدهم يكونون قوة أمام الطامع الأكبر، وهو كان إما إيران الخميني وإما عراق البعث، وتجلى ذلك بالموقف الخليجي الموحد من احتلال صدام حسين للكويت، ويجب أن يتكرر هذا الموقف وبقوة إزاء تهديدات إيران ضد البحرين، اللقمة التي يتوهم جلجامش الجديد أنه سيتذوق بها طعم الخلود والتوسع والشباب الإمبراطوري الدائم.

حينما نتحدث عن مطامع إيران الخمينية ومشاريعها فنحن لا نتحدث من وهم أو عن خلق عدو متخيَّل كما يقول بعض الكتاب العرب والمتحدثين الفضائيين، مرددين أن ذلك كله وهم وخلق لعدو افتراضي حتى نصرف النظر عن إسرائيل، فإيران هي صديقتنا ومع المقاومة، ليس هذا التصوير صحيحا، فإسرائيل هي دولة غريبة بالمعنى الاجتماعي والثقافي عن جسد المنطقة، وهي دولة معسكرة جدا، ولنا معها حروب وجولات، ورصيد هائل من الأشعار والأغاني والأفلام المعادية لها، وإلى الآن ترى في كثير من الأفلام المصرية الجديدة لقطة إحراق العلم الإسرائيلي حتى لو كانت مقحمة على السياق لتضج قاعة السينما بالتصفيق.

كون إسرائيل عدوة أو عدوة كبرى، من باب تحصيل الحاصل وتكرير المكرَّر في الكلام الإعلامي والسياسي، وهو باق وسيبقى ما لم تحل القضية الفلسطينية والسورية، ومعها تحل الخطابات الأيدلوجية التي بنيت عليها، لكن الجديد هو في هذه الغزوة الإيرانية المنهجية لإدارة الشؤون العربية الداخلية، والتصرف بها وفق المصلحة الإيرانية، ووصل الأمر بإيران الخمينية إلى أنها حفظت الدرس جيدا، تقوم هي بالخطوة التي تريد، مثلا: خطف الجنديين الإسرائيليين من قبل حزب الله في حرب يوليو (تموز)، لتندلع الحرب رغم أنف الجميع، ولا يجد الرافضون لتصرفات إيران غير بضع كلمات غاضبة، لكنهم عاجزون عن تغيير مجريات الأمور ومرغمون على الدخول في تفاعلاتها، تحت وطأة الشارع و«الرأي العام».

كرروا هذه اللعبة مع حماس في غزة، وفي تقديرهم أن ردة الفعل العربية لن تكون أفضل ولا أذكى من ردة فعل حرب يوليو (تموز) في لبنان التي قدح شرارتها «بوعي» حزب الولي الفقيه في لبنان.

الآن، وعبر بالونات الاختبار، من خلال تصريحات المقربين جدا من خامنئي، شريعتمداري وناطق نوري، نجد خطوة أكثر تصعيدا بالحديث عن تبعية البحرين للعمامة الإيرانية وراثة من التاج الشاهنشاهي، ولما كانت ردة الفعل قوية من السعودية ومصر والإمارات والأردن وحتى روسيا وأميركا، صمت المصعدون الإيرانيون وجاءت «كتيبة التهدئة» منوشهر متكي وأمثاله، وحقيقة لا تملك إلا الإعجاب بالتكتيك الإيراني، لكن فاتهم أن الدرس أصبح محفوظا هذه المرة، وأنهم بكلامهم العاري عن تبعية البحرين، قد فقأوا الدمل، وأحرجوا من كان معهم من عرب «الممانعة» أو بعض هؤلاء على الأقل، لأن قسما من عرب الممانعة - خصوصا المثقفين - لا يهمه أن تُحتل البحرين أو يخرب أمنها في سبيل القضية (أي قضية؟!).

عشبة الخلود لدولة وثورة الولي الفقيه ليست في دلمون البحرين، لأنها قد تكون عشبة الفناء ونهاية الوهم، عشبة الخلود هي في العودة إلى الواقع والالتفات إلى أحلام شبان وشابات إيران بالتعلم والعمل والتواصل مع العالم وبناء المجتمع الإيراني الإنساني المسالم، لا بناء آلات بشرية تردد الهتافات الثورية الجوفاء.

[email protected]