هل مات داروين حقا؟

TT

يبدو أن هذه السنة ستكون سنة شارل داروين، فالرجل ولد قبل مائتي عام بالضبط 1809-2009. وكتابه الشهير «أصل الأنواع»، الذي شرح فيه نظرية التطور التي قلبت الدنيا رأسا على عقب، صدر في منتصف القرن التاسع عشر قبل مائة وخمسين سنة، وبالتالي فالذكرى مزدوجة. ولذلك فإن العالم كله يحتفل به، أو يلعنه، بحسب الجهة التي ننتمي إليها. فإذا كنا من أتباع الحداثة العلمية والانفتاح الفكري صفقنا له وانتعشنا بتذكره أو بذكراه، باعتبار أنه يشكل أحد فتوحات العقل البشري. وإذا كنا من أتباع الأصوليين استعذنا بالله منه ومن الشيطان الرجيم الذي بعثه لنا لكي يقلقنا ويقض مضاجعنا ويزعزع يقينياتنا وعقائدنا.

ولم يكن من قبيل الصدفة أن حصل تحالف مقدس ضده من قبل الأصوليات الدينية الثلاثة على الرغم من أنها يكره بعضُها بعضا، فالأصولية المسيحية في كلتا نسختيها الكاثوليكية والبروتستانتية تكرهه ولا تطيق سماع اسمه، وقُل الأمر ذاته عن الأصولية اليهودية والأصولية الإسلامية. ولكن يبدو أن الأصولية البروتستانتية الظلامية المنتعشة في أميركا هي التي تشن عليه حملة شعواء حاليا، ومعلوم أنها تمنع تدريس نظريته في المدارس التي تسيطر عليها في الولايات الجنوبية خصوصا، فهي من أتباع نظرية الخلق التوراتية الواردة في سِفر التكوين، والتي تقول بأن الله خلق العالم والإنسان في ستة أيام ثم استراح في اليوم السابع.

ومعلوم أن داروين كان مؤمنا بها في البداية، بل كان يدرس اللاهوت المسيحي بغية أن يصبح كاهنا أو قسيسا ويكرس نفسه للعبادة والدين. ولكنه انخرط بعدئذ في خط البحث العلمي والرحلة الاستكشافية حول العالم، وكانت النتيجة التي نعرفها. وكان يعرف أن نظرية التطور التي توصل إليها سوف تدخل في صدام مباشر مع الكنيسة المسيحية واللاهوت الديني، ولكنه عندما كان يؤلف كتابه الشهير «أصل الأنواع» فإنه كان لا يزال مؤمنا بالله ومقتنعا بوجوده كمحرك أساسي للكون. والواقع أنه لم يصبح ملحدا طيلة حياته أبدا حتى بعد أن فقد إيمانه الديني على الطريقة التقليدية، كل ما في الأمر هو أنه كان يقول بأن العلم شيء والدين شيء آخر ولا ينبغي الخلط بينهما، فمجال الدين الروحي والتنزيهي الأخلاقي غير مجال العلم التجريبي. وهذا ما يقوله كبار العلماء حاليا.

ويرى عالِم اللاهوت الفرنسي جاك آرنو أننا نشهد حاليا تشكل تحالف مقدس ضد داروين ونظريته، فبالإضافة إلى الأصولية البروتستانتية الأميركية، التي ينبغي تمييزها فورا عن البروتستانتية الأوروبية التقدمية المستنيرة، هناك الأصولية الإسلامية التي تشن أيضا حربا شعواء على داروين وتعتبره بمثابة الشر المطلق. ويترأس هذا التيار حاليا الكاتب التركي هارون يحيى صاحب كتاب «أطلس الخلق»، وهو من أتباع نظرية الخلق الدينية التقليدية والتفسير الحرفي للكتابات المقدسة، تماما كأعلام البروتستانتية الأميركية، بل وانضم إليهم العديد من الأصوليين اليهود الذين يرفضون أيضا نظريات العلم الحديث، ويعتقدون بالصحة الحرفية لكل ما ورد في التوراة، وبالأخص في سِفر التكوين الشهير.

ويرى بعض المفكرين هنا أن لهذا التحالف المقدس لكل الاصوليات أبعادا سياسية واضحة، فالعدو المشترك لهم واحد، إنه الحداثة العلمية والفلسفية. ولذلك فإن بعض الجهات قامت بتوزيع كتاب «أطلس الخلق» مجانا على المدارس والجامعات الفرنسية عام 2007، محذرة الطلاب من نظرية داروين. ولكن بما أن فرنسا مستنيرة فإنه لا يخشى عليها من العدوى. وحدها الجاليات المغتربة قد تنخدع بمثل هذه الكتابات اللاعلمية أو الجاهلة بالعلم الحديث.

وربما لهذا السبب راح الفاتيكان يتمايز عن هذه المواقف بشكل واضح، وهذا موقف ذكي جدا من بابا روما، فهو يريد أن يبدو بمثابة المدافع الوحيد عن روح العلم والاستكشاف وحركة التقدم. هذا في حين أن المسلمين والبروتستانتيين الأميركان يبدون بمثابة المعادين الوحيدين لروح العصور الحديثة. فقد فاجأنا وزير الثقافة في الفاتيكان المطران جيانفرانكو رافاسي بالتصريح التالي: «إن نظرية التطور متوافقة تماما مع الكتاب المقدس، ولا تتعارض إطلاقا مع الإيمان أو اللاهوت المسيحي». وهكذا غيرت الكنيسة الكاثوليكية رأيها رأسا على عقب بعد أن حاربت داروين وشتمته طيلة أكثر من قرن ونصف القرن، وكانت «ضربة معلّم» من قبل الفاتيكان. فهل كان سيقوم بها لولا كتاب هارون يحيى «أطلس الخلق»؟ أشك في ذلك كل الشك؛ فالهدف هو إثبات أن المسلمين هم وحدهم الظلاميون في هذا العالم، وهم وحدهم المعادون لحركة التطور والمكتشفات العلمية التي تمثل زبدة الحضارة البشرية.

ولهذا السبب أيضا دعا الفاتيكان إلى تنظيم مؤتمر علمي ضخم بين 4 و7 مارس القادم في الجامعة البابوية بروما، تحت عنوان: «التطور البيولوجي: الوقائع والنظريات»، ودعا إليه نخبة الفلاسفة العالميين وعلماء البيولوجيا ورجال الدين.

فمتى سيتحرك المسلمون لتنظيم مؤتمر مماثل يعبرون فيه عن وجهة نظرهم في كتاب داروين وأطروحاته؟ متى سيطرحون تفسيرا جديدا لكتبنا المقدسة، تفسيرا لا يتعارض مع روح العلم وإنما يتصالح معها ومع المكتسبات الإيجابية للحضارة الحديثة ككل؟ ألم يكن الإسلام هو دين العلم والعقل طيلة قرون وقرون؟ فلماذا يسبقنا بابا روما إذن إلى هذا المنصب، ويحتل كل هذه المكانة الرفيعة والمشرفة محلّنا؟