أكلة «بامية» على شرف نيتشه!

TT

يروي الكاتب والصحافي الفنان علي خالد الغامدي حكاية صديقه عاشق الثقافة، الذي أدركته حرفة الأدب، وجرت عليه ويلاتها من الفقر، والحرمان، وشظف العيش إلى الدرجة التي دفعته لأن يحمل خلسة أصدقاءه من الأدباء والمفكرين أمثال: العقاد، وطه حسين، ونيتشه، والمنفلوطي، وشكسبير إلى حراج الخردة ليبيعهم إلى بائع الكتب المستعملة بعشرة ريالات من أجل أن يشتري متطلبات وجبة «بامية» له ولأسرته بعد أيام من المعاناة، والتردد، والمقارنة بين أهمية نيتشه ورفاقه، وبين وجبة البامية التي يحبها، وحرمه الفقر، وعشق الأدب من تناولها، لتنتصر «البامية» في النهاية، وتغدو «أصدق أنباء من الكتب»!

وعلي خالد الغامدي صديق قديم قدم الطفولة، حرصت على استمرار صداقتي به، رغم كل التحذيرات بأنه رجل يعمل في المباحث، والمثل الشعبي الخاطئ يقول: «لا تصاحب عسكري ولا موظف حكومة»، فما بالك بموظف مباحث! ويعود الربط بين علي خالد الغامدي والعمل في المباحث أن علي خالد في سنة ثانية صحافة قبل نحو أربعة عقود لم يكن يمتلك مكتبا يأوي إليه لصياغة الأخبار والتحقيقات الصحافية قبل دفعها إلى الجريدة، وبالتالي لم يجد مكانا لأداء ذلك سوى المقهى، فكان الناس ينظرون إليه باستغراب، وهم يشاهدونه يوميا في المقهى وسط الكتب، والأوراق، يكتب، ويمحو، ويمزق بعض الصفحات، فلم يستدلوا على أنه صحافي، ففكروا، وقدروا، واجتهدوا، وخمنوا، ثم أجمعوا أمرهم على أن الرجل لا بد أن يكون مخبرا في المباحث لم يجد غير المقهى ليكتب تقاريره، واستراحوا لنتائج بحثهم، وكان علي خالد آخر من يعلم بما أثاره حول نفسه من شائعات!

هذه الحكاية، و«أكلة بامية على شرف نيتشه»، وغيرها من الحكايات والمواقف الطريفة، والظريفة جمعها المبدع علي خالد الغامدي أخيرا في كتاب بعنوان «عشاء على شرف نيتشه» صدر عن دار شرقيات بالقاهرة، ويحمل الرقم «16» في رصيد المؤلف من الكتب، وهو كتاب لو تجرأت، وقلبت صفحاته فإنك لن تنتظر وصولك البيت لكي تقرأه، وقد تفعل كما فعلت أنا، حينما انتحيت جانبا في مقهى، ورحت التهم صفحاته، وأنا أعتصر آخر القطرات في إبريق الشاي، ولم أنهض من مكاني حتى بلغت صفحته الأخيرة، لقد قلت لكم منذ السطر الأول إن علي خالد الغامدي فنان، فهو ليس صحافيا أو كاتبا فحسب، لكنه مبدع من طراز خاص، يستطيع أن ينسج من المألوف والعادي لوحة فنية تشدك بألوانها، وأفكارها، وتفاصيلها المبهرة.

علي خالد أيها الصديق، أفرش منديل ذاكرتك، وذكرياتك على الرملة كما كان يفعل ذلك الرجل الذي كان يبيع الثقافة في حينا بقروش، ودع شباب الصحافيين ينبشون فيها ليدركوا الفرق بين الصحافي أو الكاتب الذي له تاريخ، وبين الصحافي أو الكاتب، الذي لا تاريخ له، وليتعلموا الفرق بين الجمال الطبيعي لصهيل الخيول الأصيلة، والجمال الزائف الذي تحدثه أحيانا جودة العلف في الخيول غير الأصيلة.

ودمت مبدعا يا صديقي.

[email protected]