حول ديمقراطية الكويت

TT

في تعليق يحمل مرارة ضاحكة وضحكة مريرة، علق الكاتب الكويتي محمد مساعد الصالح في زاويته بـ«القبس» على «زحمة» الاستجوابات المقدمة ضد رئيس الحكومة الكويتية من قبل نواب إسلاميين وشعبيين، علق بمطالبة الفلكي الكويتي صالح العجيري بوضع «تقويم» خاص بالاستجوابات حتى لا تختلط الأمور على المتابع.

هطلت الاستجوابات مثل حبات البرد على رأس الحكومة، من النائب الإسلامي المستقل فيصل المسلم، ومحور استجوابه المساءلة حول مصروفات مكتب الرئيس، ومن نواب الإخوان المسلمين المعروفين باسم حركة «حدس»، وهم قدموا محاور عدة يجمع بينها نقد الحكومة على الأداء الاقتصادي وخطة التنمية وتعطيل عمل مجلس النواب، وها هو التكتل الشعبي المشهور بنوابه الخطباء اللاذعين في قضايا ذات طابع شعبي خدمي ومالي، يهدد بتقديم استجوابه الثالث، وهو الأمر الذي دعا رئيس مجلس الأمة جاسم الخرافي، إلى التعليق على هذه الثورة البرلمانية ومصير الصدام مع الحكومة، بل ومصير المجلس كله، بالقول : «الله يستر» كما ذكرت صحيفة «الوطن» الكويتية.

من ناحية الدستور، فالاستجواب، سواء لوزير أو لرئيس حكومة، حق دستوري، ولا أحد مصان، إلا الذات الأميرية، كما يقول الدستور، وهو ما يلح عليه النواب المستجوبون دائما، ولكن الذي يراه آخرون أن كثرة استخدام هذه الأداة الدستورية ابتذل معناها وأفقدها قيمتها الاستثنائية، وتحولت أداة الاستجواب إلى عصا تهويش تستخدم في «الطالعة والنازلة» كما يقول البعض من الكويتيين، وأنه يمكن للنائب أن يكون معارضا ومراقبا للحكومة بفعالية من دون حفلة الاستجوابات الاستعراضية هذه.

يذكر لي النائب صالح الملا، وهو من ظواهر المجلس الأخير، باعتباره يصل لأول مرة لقبة البرلمان بشعارات ليبرالية واضحة وبشكل مستقل، يذكر لي أن النائب المعارض الأشهر في تاريخ الكويت كان أحمد الخطيب، ومع ذلك فالخطيب لم يلجأ يوما إلى استخدام حق الاستجواب، لأنه بسبب نضج خطابه وقوته لم يحتج إلى «هراوة» الاستجواب للوزير، ناهيك عن استجواب رئيس الوزراء.

للمتابع من خارج الكويت، فالصورة تبدو عبثية، ويبدو أن نواب المجلس لا عمل لهم إلا المشاغبة والصراخ وتعطيل عمل الحكومة، ولكن أنصار العملية الديمقراطية، يرون الأمور بشكل مغاير، وأن الضجيج الذي يبدو للمتابع من الخارج هو صناعة إعلامية، وإلا فإن أهل الكويت معتادون على هذه الأجواء السجالية بين الحكومة والبرلمان، حتى إن وزير خارجية الكويت الشيخ محمد صباح السالم علق على هذه المعارك بين الحكومة والبرلمان بالقول إن هذا «مو جديد على الكويت».

الذي يبدو أن الاحتباس أو أزمة اللغة بين الحكومة والبرلمان هذه المرة تجاوزت المعتاد، يكفي أن نتذكر أنه في عهد الشيخ ناصر المحمد، رئيس الحكومة، حل البرلمان مرتين، الأولى في (مايو 2006)على خلفية استجواب رئيس الحكومة، بسبب ما وصف من النواب بتخبط الحكومة في مسالة الدوائر الانتخابية، ثم أعيد انتخاب المجلس، وحل مرة أخرى (مارس 2008) على خلفية أزمة تأبين عماد مغنية، ثم حلت الحكومة (نوفمبر الماضي) على خلفية تصعيد النواب السلفيين بسبب استضافة رجل الدين الإيراني السيد الفالي، وما سمي وقتها أزمة القيود الأمنية. بينما حل البرلمان حلا دستوريا منذ إقرار الدستور سنة 1963 مرة واحدة فقط، سنة 1999، وحلا غير دستوري مرتين: سنة1976، واستمر الحل 4 سنوات، وسنة 1986، وأيضا استمر الحل 4 سنوات.

هذه التحولات السريعة والساخنة بدأت تطرح بعض الأسئلة التي كانت تطرح على استحياء من قبل، فمنذ فترة بدأ الهمس في أوساط النخب السياسية الكويتية عن مراجعة التجربة الديمقراطية ومكامن الخلل في الحياة السياسية الكويتية، حتى أن كاتبا شهيرا بمواقفه المعارضة والساخنة مثل عبد اللطيف الدعيج، كتب معلقا على الاستجوابات الأخيرة: «ليس لدينا أصلا مجلس أمة.. أو أن المشكلة أن لدينا مجلس أمة..!». الكويت مرت بعدة تحولات في مشهدها السياسي منذ أن انطلقت المسيرة الدستورية في عهد الشيخ عبد الله السالم، تغيرت تركيبة السكان كثيرا، ودخل إلى الملعب السياسي تيارات أصولية سياسية بأشكالها من سلف وإخوان ومحسوبين عليهم، وبرز نواب المناطق الخارجية، وضمر التيار القومي واليساري، وغزيت البلد واحتلت بشكل كامل، ثم عادت لأهلها، وسقط النظام المحتل، نظام صدام حسين.

تطورات كثيرة لم تخطر ببال المشرعين الأوائل وآباء الدستور، وهذا شيء طبيعي في تحولات الحياة، فهل تكفي وصفة الآباء في علاج علل الأبناء؟ مسألة «تنقيح» الدستور أو تعديله تثير حنق الكثيرين في الكويت من حماة الدستور، ويعتبرونه خطا أحمر لا يجوز الاقتراب منه، والحق أنه لم يصدر من أحد، سواء الأمير أو أقطاب الدولة، ما يشير إلى وجود نية أو حتى تلميح إلى تعديل أو تطوير الدستور، رغم أن الدستور نفسه وضع آلية لإجراء تعديلات لاحقة عليه، لأن القناعة عند كثيرين، سواء من السلطة أو معارضيها، أن المشكلة ليست في «النصوص، بل في النفوس»، وحسب ما قال لي مسؤول حكومي نافذ في المطبخ السياسي، فإن المشكلة كما يقول المثل اللبناني «مش رمانة، لكن نفوس مليانة».

البعض من المراقبين والمفكرين السياسيين الكويتيين أكثر تفاؤلا، ويعتقد أنه يجب على الجميع الصبر واحتمال مثل هذه الحدة في الممارسة النيابية أو التردد الحكومي في منازلة المعارضة سياسيا، فمثلا الدكتور غانم النجار، وهو مفكر سياسي، يرى أن التغييرات الجوهرية التي مست الحياة الكويتية منذ بضعة سنين ليست بالأمر الهين، وأنه يجب الصبر والأناة حتى نرى مخرجات هذه التغييرات على السطح، فمثلا، كما قال الدكتور النجار، هناك:

* فصل ولاية العهد عن رئاسة الوزراء في 2003.

* إقرار مجلس الأمة حقوق المرأة السياسية في مايو 2005.

* تفعيل قانون توارث الإمارة عبر مجلس الأمة، ومن ثم تصويته على تولي الشيخ صباح الأحمد أميرا للبلاد في يناير 2006.

* إلغاء قانون التجمعات من خلال حكم للمحكمة الدستورية، وكسر احتكار الصحف من خلال قانون المطبوعات الجديد.

* تقليص عدد الدوائر الانتخابية من 25 إلى 5 دوائر عبر حركة شعبية شبابية ضاغطة رفعت شعار «نبيها خمس» آنذاك.

من أجل هذه التغييرات والتحولات، التي يتحدث عنها النجار، فيجب الصبر واحتمال المطبات التي تحدث حتى تتسرب مفاعيل هذه التغيرات إلى عقل المجتمع والناخب الكويتي. وهنا وبكلام مثل هذا الكلام، تصبح الأزمة في الكويت ليست أزمة إخفاق التجربة الديمقراطية، بل هي محطة انتقالية طبيعية تمر بها البلد.

الصورة، كما يلحظ من يتحدث مع المهتمين أو السياسيين في الكويت أو كما يراقب الشخص ويقرأ، منقسمة بين صورة متفائلة ومتشبثة بشكل نهائي بقدسية الحل الديمقراطي الدستوري، وبين صورة متشائمة من مآلات وحصاد التجربة على المستوى النيابي، الجديد في المتشائمين ليس «الحرس القديم» أو بعض البسطاء الذين لا يهمهم الجدل الفلسفي والسياسي حول الديمقراطية، بقدر ما تهمهم أمور مثل أزمة الإسكان وإسقاط القروض والبنية التحتية، الجديد في المتشائمين هو تسرب الإحباط من حصاد الديمقراطية إلى دوائر وشرائح كانت مناصرة تقليدية للتجربة الدستورية البرلمانية، مثل أوساط التجار أو حتى الشباب الليبراليين، الذي يرى بعضهم أن الحل غير الدستوري للمجلس ليس خيارا سيئا، حتى نرى إن كان الشعب فعلا ما زال مقتنعا بجذرية الدستور والبرلمان، وسيهب مثلما هب في نهاية الثمانينات أيام «دواوين الاثنين» الشهيرة. ما يجري في الكويت، لا يعني الكويت وحدها، بل يعني الكثير من الذين يطرحون سؤال الديمقراطية وصلاحيتها لمنطقتنا العربية أم لا؟ وهل نحن نمارس الديمقراطية بشكل قشري أدواتي من دون استظهار واستيعاب الأساسات الفكرية والحتميات أو القوانين الفلسفية التي عليها بنيت العمارة الديمقراطية؟ بصيغة أخرى: هل نحن نمارس شكلا ديمقراطيا، لا غبار عليه ولا مطعن فيه، لكنه بلا روح ولا حياة فكرية وأخلاقية تمده بأسباب البقاء.

دوما كانت الكويت محط الأنظار، وهي رغم صغر مساحتها، تمثل نموذجا فريدا في كل شيء، حتى في معارك نوابها مع حكومتها، تمثل شيئا مهما للعالم العربي، ولكنها تمثل النموذج السياسي الأهم والوحيد بالنسبة لدول الخليج، حتى دخلت البحرين حديثا، ومن أجل ذلك كان متابعة وفهم تحولات الكويت وتجربتها الديمقراطية مهما لكل سكان هذا البحر الحافل بالأزمات والتحولات.

الكويت على موعد مع اختبار جدي لديمقراطيتها التي كانت دوما موضع جدل ثري وغني بين أهل الخليج، وعلى ضوء هذا الاختبار ستحسم أسئلة كثيرة حول معضلة الديمقراطية في الخليج، أو هكذا يفترض.

[email protected]