السيطرة على آلام المخاض لإقامة نظام عالمي جديد

TT

نواجه اليوم أول أزمة عامة في العصر العالمي. إن الاضطراب المالي والضغوط على الموارد التي يجب أن نتغلب عليها هي آلام المخاض لولادة نظام عالمي جديد.

وعلى مدار الأعوام العشرة الأخيرة، شهدنا بعضا من أعظم الفوائد التي يمكن أن تقدمها العولمة، التي تجعلني أنظر بإيجابية إلى مستقبل اقتصاد العالم الثابت الشامل المفتوح ذي الأسواق الحرة.

لقد شهدنا منتجات استهلاكية أرخص سعرا تأتي من الصين وبقية أنحاء آسيا، وكانت متاحة لملايين من البشر. ورأينا انخفاض أسعار الفائدة نتيجة لتأثير الصادرات الآسيوية الرخيصة المخفض لمعدل التضخم. ونتيجة لهذه الزيادة في الصادرات، وجدنا أن عدة ملايين انتشلوا من الفقر. ولكننا الآن نكتشف أربع مشكلات نشأت حتما من عملية العولمة. وإذا تم حلها، فستفرز هذه المشكلات مستقبلا مليئا بالفرص. المشكلة الأولى هي إعادة هيكلة الصناعات والخدمات التي لا مفر من أن تحدث. أما الثانية، فهي مشكلة الموارد بسبب طلب الاقتصادات الآسيوية المتنامية لكل شيء من الغذاء ذي الجودة العالية إلى البترول والسلع الأخرى، وهو ما يضيف ضغوطا إلى الإمدادات.

المشكلة الثالثة هي الفجوة التي تفصل بين الدول الغنية والدول الفقيرة. ويجب أن نكون حذرين للغاية من عدم استفحال مشاعر الكراهية. وعلينا أيضا واجب فعل شيء ما حيال هذه الفجوة.

المشكلة الرابعة هي النظام المالي. وبينما يوجد لدينا الآن تدفق عالمي لرأس المال وترتيبات مالية عالمية، إلا أننا لا نملك وسائل عالمية، عبر القارات، للتعامل مع هذه المشكلات عندما تنشأ. وفي الأعوام العشرين المقبلة، سيتضاعف حجم الاقتصاد العالمي. وهذا يعني مضاعفة الفرص العديدة المتاحة أمام المشروعات الجيدة لبيع منتجاتها. ويعني أيضا توفير مليار وظيفة جديدة، ولكن ليست جميع الوظائف ذاتها للأشخاص ذاتهم. وهنا يأتي دور إعادة الهيكلة. وسيكون من المضلل للناس أن نعطيهم انطباعا بأن جميع الوظائف التي تتعرض للخطر في الوقت الحالي ستكون متاحة عندما تنتهي هذه الأزمة. ولكن بدلا من ذلك، يجب أن نقول لهم «لا يمكننا أن نساعدكم، في بعض الحالات، على الاحتفاظ بآخر وظيفة لكم، ولكننا سنساعدكم على الحصول على الوظيفة التالية».

هذا هو الاتجاه الإيجابي نحو العولمة الشاملة المرنة المنفتحة. سنساعدكم بالمهارات التي تحتاجون إليها، بالتدريب على الاحتمالات الجديدة. ولكن من أجل خلق وظائف وفرص جديد، يجب أن نظل اقتصادا منفتحا، وليس حمائيا.

ويجب أن نجعل الناس ترى منافع العولمة، على وجه الخصوص وسط هذه الأزمة. وإذا كنا ببساطة نؤيد الأنظمة الاقتصادية المرنة المنفتحة والتجارة الحرة - بدون إعداد الأشخاص للمهارات والأدوات التي يحتاجون إليها من أجل العمل في أمان في هذه البيئة - سيكون هناك رد فعل حمائي من هؤلاء الذين يشعرون بأنهم ليسوا منضمين إليها. وهذا ما حدث في الثلاثينات. نحن نعلم الآن أن الطلب طويل المدى على البترول والسلع الأخرى والغذاء سيزداد، على الرغم أن هناك ركودا في الأشهر القليلة الماضية. ولذلك يجب أن تكون لدينا سياسة للطاقة والبيئة تتناسب مع مرور الزمن. ويجب أن ننوع مصادرنا، بعيدا عن البترول، إلى الطاقة النووية والمتجددة. ونحتاج إلى إقناع دول البترول بإعادة تدوير أرباحها، وخاصة في المصادر غير البترولية، في استثمار الطاقة على المدى البعيد. وبعد الحديث مع السعوديين ودول أخرى في منظمة الأوبك، أعتقد أنه من الممكن بالفعل الوصول إلى أسلوب منسق بين المستهلكين والمنتجين لتحقيق الاستقرار في أسعار الطاقة.

وعن طريق مثل هذه الصفقة، نحل ثلاث مشاكل في وقت واحد: القدرة على تحمل أسعار البترول وعدم استقرارها؛ وتحديات تغير المناخ، حيث نحتاج إلى التحول عن الوقود الحفري، وخلق وظائف جديد في إطار هذه العملية؛ والمشكلات الاستراتيجية المتعلقة بتركز إنتاج البترول في منطقة الشرق الأوسط.

ولكن المشكلة الملحة بالطبع هي الأزمة المالية. لقد شاهدنا انخفاض أسعار الأسهم بنسبة 40 في المائة في غضون عام واحد. ورأينا إعدام ديون وصلت إلى تريليون دولار. ووجدنا تراجعا اقتصاديا وتوقفاً للإقراض في دول مختلفة، ورأينا أعدادا كبيرة من المصارف يجب إعادة رسملتها.

وأدركنا أن الطرق العادية في جمع الأموال، عبر صناديق الثروة السيادية والأسهم الخاصة وإصدار الأسهم إلى العامة، لن تفلح في إعادة هيكلة مصارفنا ورسملتها. لذلك، اتخذنا قرارا في بريطانيا العظمى، كحكومة، بإعادة رسملة مصارفنا، ويسعدني أن أقول إن أعدادا كبيرا من الدول حول العالم أدركت أن هذه هي الطريقة المناسبة لإعادة الثقة إلى النظام المصرفي.

وحاليا المشكلة التي يجب أن نتناولها هي العودة إلى الإقراض الضروري، حتى تحصل المشروعات الصغيرة على تدفق رأس المال، وحتى يستطيع الأفراد أن يحصلوا على رهون عقارية.

وكما يقول كينيز، إن إعادة الحركة إلى الاقتصاد من جديد تستلزم ما هو أكثر من تخفيض أسعار الفائدة، بل تحتاج إلى تحفيز مالي أيضا. ونظرا إلى انخفاض معدل التضخم بشدة، الناتج عن هبوط أسعار البترول والغذاء في الوقت الحالي، أعتقد أنه يجب أن يكون هناك تحفيز مالي ونقدي منسق عبر الحدود، من الصين إلى الولايات المتحدة إلى بريطانيا العظمى.. اتفاق جديد عالمي. وإذا أكملت الدول بعضها الآخر عن طريق هذا الإجراء، لن تتسرب فوائد التحفيز المالي في أية دولة عبر شراء الواردات، كما كان الحال دوما.ويجب على كل دولة بالطبع أن تتعامل مع طبيعة خطة التحفيز لديها، سواء كانت استثمارا في الأشغال العامة، أو تخفيضات على الضرائب، وحوافز لأصحاب الدخول المنخفضة الذين لديهم نزعة أكبر للإنفاق.

ودعوني أوضح نقطة واحدة: يجب أن يكون عجز الميزانية الناتج عن التحفيز الاقتصادي مؤقتا. ويجب أن يكون واضحا تماما أن هذه الخطط المحفزة مؤقتة وضرورية من أجل إخراجنا من الأوقات العصيبة، وفي الوقت ذاته تبني من أجل المستقبل. ويجب أن يكون هناك طريق للعودة إلى التمويل الثابت.

وأوضح وسيلة للربط هنا هي الاستثمار في البنية التحتية الخضراء والتكنولوجيا الخضراء. وكان أكبر مجال شهد توسعا في النمو والإنتاجية وفرص العمل في حقبة التسعينات هو تكنولوجيا المعلومات. وأعتقد أن التكنولوجيا البيئية التي تستجيب لتغير المناخ وتوفير استخدام الطاقة هي التي ستلعب هذا الدور في الفترة المقبلة. وقد قال فرانكلين ديلانو روزفلت من قبل «إنه لا يوجد شيء نخشاه إلا الخوف ذاته». والنتيجة الطبيعية لذلك هي «تعتمد الثقة في المستقبل على أن يكون الناس واثقين اليوم». ويمكننا أن نبني هذه الثقة عن طريق الإجراءات التي تتخذها الحكومات. ومن الواضح أيضا أن الإصلاحات في النظام المالي العالمي وفي أنظمتنا الداخلية ضرورية. والمبادئ التي تقام على أساسها هذه الإصلاحات هي الشفافية، والمسؤولية (تولي الأشخاص مسؤولية في الشركات المتصلين بها)، والأمانة (بالتخلص من تضارب المصالح في النظام). وعلى الصعيد العالمي، سيتطلب هذا نظاما من المراقبة الدولية. وبعيدا عن هذا، سيكون على صندوق النقد الدولي والبنك الدولي مساعدة الأنظمة الاقتصادية المتعثرة، مثل المجر وباكستان وأيسلندا، التي لا يمكنها أن تجمع الموارد التي تستطيع الأنظمة الكبرى جمعها.

وفي النهاية، من المهم للغاية التوصل إلى اتفاق تجاري عالمي، حتى نستطيع التقدم بالعولمة، وليس، كما ذكرت في السابق، العودة إلى الإجراءات الحمائية الموهنة. في عام 1933، عقد المؤتمر الاقتصادي العالمي في لندن لمناقشة الأزمة التي وقعت في هذه الفترة. وكان من المفترض أن يجمع بين الدول، لمنع الإجراءات الحمائية، ولحل المشكلات معا، ولكنه فشل، وتوالت العواقب المعروفة جيدا.. فيجب أن نوطد عزمنا وثباتنا من أجل تجنب نتيجة مشابهة في الوقت الحالي. وهناك طريق أمام النظرة المتفائلة نحو الاقتصاد العالمي. وهذا العالم الأفضل في انتظارنا فقط، إذا لم نفشل اليوم.

* رئيس وزراء بريطانيا.. وقد تم إعداد هذا المقال من الملاحظات التي أبداها رئيس الوزراء براون أخيرا أمام مجلس العلاقات الخارجية الأميركية، بعد الحصول على إذن بذلك خلال زيارته إلى الولايات المتحدة في الأسبوع الحالي.

* خدمة «تريبيون ميديا»

خاص بـ («الشرق الأوسط»)