اقتراح ضعيف يا فريد

TT

في مقابلة صحافية للرئيس الأميركي أوباما مع (نيويورك تايمز) كشف عن معالم إستراتيجيته الجديدة في أفغانستان، بفتحه أبواب المصالحة مع المعتدلين من حركة طالبان، كما حدث مع الجماعات المسلحة السنية في العراق، حيث تم تمييز عناصر القاعدة المؤدلجين عن المقاتلين العراقيين العاديين الذين تدفعهم محركات المطالب والغضب من الحرمان من الحقوق، وغير ذلك من المحركات غير العقائدية، ومن خلال هذا التمييز، وعدم وضع مجاميع المقاتلين في سلة واحدة، أمكن عزل القاعدة، وإنجاز مشروع الصحوات، التي كانت لها اليد الطولى في تهميش خلايا القاعدة في الغرب العراقي.

أوباما لم يشأ الذهاب كثيرا في التفاؤل بإمكانية تكرار النموذج العراقي في مناطق القبائل البشتونية، سواء في شريط الحدود بين باكستان وأفغانستان، أو مناطق العمق البشتوني في جنوب أفغانستان، لكنه أشار إلى أن النية والعمل متجه بهذه الوجهة «التمييزية» على أمل خلق مشروع «صحوات أفغاني».

هذا التوجه يبدو أن له رواجا في بعض أوساط الرأي الأميركية، فهذا هو الصحافي السياسي فريد زكريا يكتب موضوع غلاف في العدد الأخير من مجلة نيوزويك عن وجوب التعايش مع الإسلام الراديكالي باعتباره حقيقة من حقائق الحياة.

من أجل توخي الدقة، فإن كلام الرئيس الأميركي ليس بالضبط هو ما تحدث عنه فريد زكريا، فالأخير يتحدث عن أن هناك مقاتلين في مجموعات طالبان يمكن التعامل معهم بشكل خاص باعتبارهم يملكون مطالب أقل عدائية وخطورة من البقية المفرطين في تعصبهم، أو باعتبارهم ينسبون إلى حركة طالبان من منظور قومي، باعتبار أن حركة طالبان أصبحت هي العنوان العريض الذي ينضوي فيه كل البشتونيين الغاضبين من صيغة الوضع الجديد في أفغانستان حيث تم تهميشهم بأعمال حركة طالبان، في وضع يشابه وضع العرب السنة في العراق مع تنظيم القاعدة، إلى فترة قريبة.

ينقل زكريا عن من وصفه بأحد الخبراء وهو ديفيد كيلكولن، مستشار الجنرال باتريوس: «قال لي زعماء قبائل ومسؤولون حكوميون أفغان في المحافظات والأقاليم، إن 90 بالمائة من الأشخاص الذين نصنفهم في خانة طالبان هم في الواقع مقاتلون قبليون أو قوميون من البشتون أو أشخاص ينفذون أجنداتهم الخاصة. أقل من عشرة بالمائة ينضوون إيديولوجيا تحت لواء مجلس شورى طالبان في كويتا [مجموعة بقيادة الملا عمر] أو تنظيم القاعدة». ويقول عن هؤلاء الأشخاص إنه «من شبه الأكيد أنه يمكن استمالتهم في ظل بعض الظروف». ويضيف كيلكولن: «هذا ما فعلناه في العراق إلى حد كبير».

مشكلة فكرة فريد زكريا هي في التجريب المستمر في العالم الإسلامي، فبعد الهجوم الكامل على كل التيارات الإسلامية حتى الأقل تشددا والأكثر تسيسا في الفترة الماضية، ها نحن أمام أطروحات تدعو إلى «التعايش» الجبان مع طالبان وأمثال طالبان سواء في نيجيريا أو الجزائر أو العراق وغيرها.

حجة زكريا هي أنه لا يمكن تغيير التعصب لدى هذه المجموعات ولا تعديل أفكارهم المتشددة تجاه الحياة وقضايا المرأة والتعليم والتسامح والتعليم والقانون والتواصل مع العالم، لأن هذه الجماعات تعتمد على تأييد شعبي واسع لها، إذن فما دام أنهم لا يحاولون تصدير أفكارهم هذه إلى العالم «المتمدن» ولا يقاتلون أميركا والغرب ولا يقومون بعمليات إرهابية في أراضي الغرب، فلا بأس من تركهم مع أفكارهم المتشددة داخل حدود أراضيهم، فهكذا يريد من أيدهم من المجتمع، ونحن (أي الغرب وأميركا) لسنا قادرين على تغيير أفكارهم الفظيعة (والتعبير من زكريا).

تقريبا هذه زبدة الفكرة لدى فريد زكريا، وطبعا هي تطوير أخصب لطريقة عزل المقاتلين العاديين عن المقاتلين الخطرين والمؤدلجين في مشروع الحوار مع طالبان على غرار الحوار مع المجموعات السنية المقاتلة في العراق.

قد يتفهم المرء فكرة الحوار العملي مع المقاتلين لثنيهم عن إلحاق الضرر بقوة مستعمرة ما، مثلما حصل في العراق أو سيحصل ويحصل في أفغانستان، يتفهمها لدواعي الأمن وإضعاف العدو وتقليل أنصاره وعدده، ولكن ما لا يتفهم ولا يفهم هو هذا التخبط الذي يطرحه أشخاص أصحاب رأي في أميركا مثل فريد زكريا، وكأن العالم الإسلامي معمل تجارب.

بداية، ليس صحيحا أن المتعصبين الذين يحصرون تعصبهم في مجتمعاتهم ليسوا ضارين بالخارج، فمن هو الذي وفر الدعم لأسامة بن لادن والقاعدة في أفغانستان؟ ومن قهر المرأة وحرم الفنون وقلب أفغانستان إلى مجتمع، فوق فقره وحروبه، يعاني من نار التعصب المقيت. أم أن ترك المتعصبين يقتلون الحياة ليس مهما لدى أميركا «الأمل»؟ ولو طبقنا هذه النظرية في دولة مثل اليمن، فرضا، بدعوى ترك المتعصبين يسرحون ويمرحون بحجة أنهم يريدون تطبيق تعصبهم داخل بلدانهم فقط، فلن يكون نتيجة هذا إلا توفير المناخ المثالي لعناصر القاعدة وجماعة الجهاد المصرية والجماعة الإسلامية المصرية وجماعات الجزائر وليبيا والمغرب، من أجل النشاط والاختفاء داخل البحر الاجتماعي المتعصب دينيا، والمتروك دون مواجهة، بحجة أن تعصبهم يخصهم لوحدهم

هذه نظرة جبانة وانتهازية، وأيضا غير عملية، ربما تفهم في سياق التعب من تعقيد المواجهة مع المتعصبين، ولكنها، أبدا، لا يمكن أن تفهم كفكرة ناجحة أو جديدة، لقد ترك المتعصبون طويلا في أكثر من بلد عربي وخليجي وغض الطرف عنهم، فماذا كانت النتيجة؟ كانت وبيلة ومرة، وصرنا نرى ثمار تعصبهم في شتى ميادين الحياة من محاربة لكل رأي آخر وتطويق وتحريم للفنون والعلم والاتصال بالعالم وكفاح عنيد ضد المدنية وتطوير الدولة والمجتمع..

هذا الحل قد يفيد على مدى عقد من السنين، إذا بالغنا في تقدير المدة، ولكن لا يلبث هذا التعصب أن يفيض إلى الجوار ويتشجع لتصدير نموذجه إلى العالم الإسلامي، ولنا في استلهام رموز القاعدة في السعودية لإمارة طالبان، وإشادتهم بها، بوصفها هي الدولة الإسلامية المرتجاة، والعمل على تكريس شكلها في المجتمع السعودي، خير عبرة وتذكرة.

هل المطلوب إذن هو اجتثاث هذه الجماعات بالمعنى المادي والجسدي؟

هنا يأتي الكلام المفيد في وجوب التمييز بين «النواة» العقائدية والعسكرية والسياسية لمثل هذه الجماعات التي يجب أن تحارب، وبين أحزمة التأييد الهامشية التي ليس بصلابة النواة، والتي يجب أن يتعامل معها بشكل آخر وينظر في مطالبها التي ليست بالضرورة هي مطالب من أبحر في مياه غضبهم من قادة التعصب.

في النهاية، لا يلام «الأجانب» من أميركان أو أوروبيين إن هم جربوا فينا أو حاولوا التخلص من مشكلة متعصبينا بهذه التقليعات التحليلية، ولكن يلام أهل الدار الذين يجب عليهم أن يقلعوا شوكهم بأيديهم، حتى لا يأتي أحد من الخارج يقلعه لهم أو يقول لنا: مجتمعاتكم بطبيعتها تحب المتعصبين، فهل نحارب كل المسلمين؟

الحق أن مجتمعاتنا ليست في غالبيتها مؤيدة للتعصب والمتعصبين، ولكنها محبطة، ربما من تعثر التنمية وفقدان النموذج المغري، فتعاقب نفسها باختيار أقبح ما فيها من معبرين عن الغضب، لكنها اختيارات متشنجة وعجلة، سرعان ما ستزول إن شرعنا، كلنا، في تفكيك ألغام الخطاب الديني والثقافي والاجتماعي والسياسي المتعصب، وتهيئة الأرض والسياسة عبر زرع العدل وحكم القانون الحقيقي، ما يجعل جاذبية التعصب باهتة، وعندها يصبح حديث مثل حديث فريد زكريا وغيره من «المجربين» لغوا من القول لا معنى له.

[email protected]