فلسطين.. سفينة شبح تهيم في الضباب على غير هدى

TT

في الوقت الذي يتساءل فيه الفلسطينيون عن الخطوة المقبلة، سوف يكون من الأفضل بالنسبة لهم أن يتذكروا أن نقطة البداية بالنسبة لهم كانت فشلا مزدوجا تشكل خلال العقد الماضي.

وأول هذين الفشلين، فشل حركة فتح التي هيمنت على السياسات الفلسطينية منذ الستينات وسيطرت على السلطة الفلسطينية في أعقاب اتفاق أوسلو. ففي إحدى المراحل من تاريخها، كرست فتح طاقاتها للنضال من أجل بناء الدولة الفلسطينية، وهو جهد على الرغم من ضخامته إلا أنه لم يكن ذا جدوى. بيد أنه بداية منذ عام 1991 وضعت فتح لنفسها هدفا واحدا، ألا وهو استمرارها وثراء النخبة التي تدعمها، ومع توضيح الرئيس الراحل ياسر عرفات لمعالم الطريق، إلا أن فتح نبذت تلك التطلعات القومية السابقة. وفي كل مرة كانت تتصادم فيها مصالح الحركة البسيطة مع المصالح الواسعة للكفاح الوطني، كانت فتح تتعلق بمصالحها الخاصة وتتخلى عن الأخيرة.

وقد قامت فتح ومن ورائها منظمة التحرير الفلسطينية التابعة لها، بالاستجابة لكل طرح جديد، على غرار شغف المراهقين بصيحات البوب في كل موسم جديد.

وقد كان الهدف من اتفاقات أوسلو إغراق السمكة، أي دفن التطلعات الوطنية للفلسطينيين تحت أطنان من الورق، وقد تبنت منظمة التحرير الفلسطينية تلك الاتفاقات بحماسة بالغة. جاء بعد ذلك ما سمي بخارطة الطريق، التي قدمها الرئيس الأميركي السابق، جورج دبليو بوش، والتي كانت نوعا من العري السياسي، تستر العورة لتكشف ما سواها، ومرة أخرى اندفعت فتح ومنظمة التحرير إلى تبنيها دونما تردد.

وأخيرا، خرجوا علينا بـ «حل الدولتين»، الذي قدمته إدارة الرئيس بوش، غير أن منظمة التحرير الفلسطينية التي تبنت ذلك كشعار، بذلت كل ما في وسعها للحيلولة دون تحقيق ذلك.

ولم يخلف رحيل عرفات عن المشهد الفلسطيني أي تغييرات في ثوابت فتح، حيث غاصت السلطة الفلسطينية في مستنقع الفساد، إذا ما ثبتت صحته ولو بصورة جزئية، لجعل المافيا خجلة من نفسها.

ومع مرور الوقت، تحولت الأمور إلى الأسوأ، فتبنت فتح - ومنظمة التحرير - موقفا مغايرا حول القضية الرئيسة للمستقبل الفلسطيني، إذ قامت بتبني كل ما يمكن أن يطلق عليه مبادرة سلام، لكنها لم تطرح هي مبادرة خاصة بذاتها. وكانت إستراتيجيتهم بسيطة للغاية: استمرار المحادثات مع الإسرائيليين والحفاظ على رضا الأميركيين مع بعض الإشارات القليلة، وخداع الدول العربية والأوروبية للحصول على المعونات.

وفي الوقت الذي كانت تتعرض فيه قيادات منظمة التحرير لضغوط لاتخاذ موقف محدد، كانوا دائما ما يؤكدون أنهم لا يرغبون في شيء سوى «التطبيق الكامل لقرارات الأمم المتحدة»، وما تلك إلا إجابة الرجل الضعيف، وموقف يمكن أن يتبناه أي شخص ليس لديه علم بالقضية.

إن آخر قرارات مجلس الأمن الخاصة بشأن قضية فلسطين صدر منذ 40 عاما. أليس من الحكمة أن نعترف أن تلك القرارات لن تطبق في أي وقت؟

لقد فشلت فتح ومنظمة التحرير في تطوير استراتيجية سواء في الحرب أو السلام، وبات ركاب السفينة الشبح تائهين في الضباب ويسيرون على غير هدى، ودفع المواطنون الفلسطينيون البسطاء الذين تحولت حياتهم اليومية البسيطة إلى تجارب مريرة في سياق عدد لا يحصى من المآسي، ثمن ذلك كله. والفشل الثاني كان من نصيب حماس، تلك الحركة الإسلامية التي استحوذت على السلطة في غزة في انقلاب دموي، وأثارت القتال الأخير الذي كان مكلفا مع الإسرائيليين.

بيد أن الصورة التي تصرفت بها حماس تبرز عدم اكتراثها بفلسطين هي الأخرى، فهي تعارض صيغة الدولتين وترفض تبني المسار الوطني رغبة في الخطاب الجهادي العالمي. وحماس هي المنظمة الفلسطينية الكبيرة الوحيدة التي لا تحمل بين ثنايا اسمها أو اختصارها أي ذكر لدولة فلسطين، ولو أن لحماس هدفا واحدا معلنا، فإنه تدمير إسرائيل بدلا من تكوين الدولة الفلسطينية.

وإذا ما تطرقنا إلى الفساد، فما هي ببعيدة عن فتح، لكن الاختلاف بينهما هو أن فساد حماس أكثر «ديمقراطية» إذ يأتي في هيئة دعم لشبكة كبيرة من المؤسسات الخيرية والتباهي بعمالتها.

إذا ما اعتبرت فتح فلسطين تجارة، فإن حماس تنظر إليها كقضية أيديولوجية، لكن العنصر المفقود في كلا الحالتين هو الحاجة إلى أن تكون فلسطين طموحا وطنيا خاليا من اعتبارات الأعمال وأن تسمو فوق الأيديولوجيات. ونتيجة لاعتماد فتح على إسرائيل والولايات المتحدة، لم يعد بمقدورها أن تطور استراتيجية مستقلة، ولن يمكنها إنقاذ قضية فلسطين من أن تكون مسألة ثانوية في صراع القوى الكبير في الشرق الأوسط. أما حماس من جانبها فقد اعتمدت على النظام الخميني في طهران، الأمر الذي جعل أحد المعلقين، في وكالة الأنباء الإيرانية الرسمية (إيرنا)، يقول في تحليله «إن حماس تطبق الدروس التي تعلمتها من الإمام الخميني.. فحربها هي حربنا، حرب الجمهورية الإسلامية ضد الغطرسة العالمية».

وعندما اقتتلت فتح وحماس، قتل الفلسطينيون بعضهم بعضا في حرب عمالة نيابة عن الجمهورية الإسلامية والولايات المتحدة.

ينظر النظام الخميني وحلفاؤه إلى فلسطين كجزء من معتركهم، ومن ثم يحاولون إعادة تسليح حماس، ولذا تحاول القوى الكبرى، التي تقودها الولايات المتحدة الأميركية، حل تلك المشكلة عبر توقيع المزيد والمزيد من الشيكات ذات الأرقام الضخمة، لكنهم لم يدركوا أن الفلسطينيين لا يرغبون في المال بقدر رغبتهم في الحرية وتقرير المصير، وأن الكثير من الفلسطينيين يفضلون الفقر في دولتهم عن الغنى في ظل الاحتلال الأجنبي.

فهل بمقدور الفلسطينيين استعادة استقلال تصرفاتهم؟ وهل بإمكانهم وقف القتال ضد بعضهم البعض نيابة عن القوى الأجنبية؟ وهل بإمكانهم تطوير مشروع قومي ذي أهداف يمكن تحقيقها في الميدان الدبلوماسي والسياسي؟

لقد فشلت كل من فتح وحماس، وما من شيء قادر على أن يقدم للفلسطينيين شيئا سوى المزيد من المعاناة والاستيقاظ من الوهم. إن إعادة تشكيل المشهد السياسي الفلسطيني أصبحت ضرورة ماسة، وبات الفلسطينيون بحاجة إلى استراتيجية تعكس مصالحهم الوطنية الخاصة عوضا عن مصالح القوى المتنافسة في المنطقة.