التاريخ يصرخ من جديد

TT

خلال الأسبوع الماضي، تضمن قسم الكتب في صحيفة «فاينانشال تايمز» ملخصاً لقصة «ذي بوست أوفيس جيرل» (فتاة البريد) لستيفان زيوغ، وهي قصة كتبت في أعقاب الحرب العالمية الأولى وترجمت أخيراً إلى اللغة الإنجليزية. هذا شيء جيد تماماً. ولكن السبب الذي يجعلني أتحدث عن زيوغ هو ما جاء في نهاية المراجعة، حيث قال الناقد إن الكتاب «يتضمن وصفاً رائعاً لتأثير التاريخ على حياة الأشخاص» - بصيغة أخرى ما يحدث لمعظمنا في الوقت الحالي. يشبه التاريخ حيواناً هرب من حديقة الحيوانات، خارج القفص الذي يجب أن يكون داخله. كانت حياة زيوغ الخاصة مثالا على القوة الهائلة للتاريخ. كان مواطناً ثرياً من فيينا، ولد في القرن التاسع عشر، وأصبح كاتباً شهيراً وهو في سن صغيرة. كان على اطلاع باللغات الأوروبية المألوفة، وسافر إلى أرجاء القارة الأوروبية، حيث كان يستطيع المرء القيام بذلك، فلم تكن هناك تأشيرات للمرور بين الدول. كان ذلك هو عالمه الذي استمتع به كثيراً. وبعد ذلك، عانى زيوغ من عدم السيطرة على حياته إلى حد كبير. فبعد أن كان يشعر أنه داخل وطنه في أي مكان في أوروبا، بات مطارداً. يهودي هارب من النازيين، انتهى به المطاف إلى البرازيل، حيث عاش في واقع صعب مثير للإحباط، أفضى به إلى قتل نفسه. وكان عالمه، الذي سماه في مذكراته «عالم الأمس»، قد تلاشى. قصة زيوغ عظيمة، إلا أنها تتضمن بعض عناصر الفاجعة الاقتصادية الحالية. يتكرر حالياً لفظة «التراجع» الاقتصادي. وهذا يعني أن الأشياء لم تصبح أسوأ بصورة مفاجئة. ويمكننا أن نضفي طابع القوة على الكلمات أو المصطلحات، وهذا هو السبب في تحول وصف وسائل الإعلام لما يحدث في العراق بأنه «حرب أهلية» إلى خبر في حد ذاته. وحتى الآن، فعلى الأقل في «نيويورك تايمز»، فإننا نشعر بحالة من الإحباط، ربما لا يعد إحباطاً «كبيراً»، ولكن هذه هي الحالة المسيطرة في الوقت الحالي. وهذا يعني أن معدل البطالة يمكن أن يصل إلى أكثر من 10 في المائة وأن كارثة الإسكان سوف تتعمق وأن بعض المصارف الكبرى سوف تصبح في حراسة الحكومة.

تشعر أوروبا بالرعب، ولدى اليابان شعور بالكآبة، وتحتاج روسيا إلى بيع البترول بسعر 70 دولاراً حتى لا تخسر، فهي متضررة من بيعه بقرابة 40 دولاراً. هذا حقا وقت سيئ جداً.

الكساد - إذا كان الوضع كذلك - ليس مجرد أزمة اقتصادية. ولكنها، عملية تهديد تاريخية. من اعتاد منا على السيطرة على حياته، فإنه على وشك المعاناة من تجربة مخيفة ومريعة. وسيلحق ذلك ضرراً شديداً بالشباب على وجه الخصوص. إذا سألت أي واحد منهم لماذا لم يقرأ أي صحيفة أو لم يهتم بالأخبار البتة على مدار العشرين عاماً الماضية أو نحو ذلك، فإن الإجابة هي أن الأخبار ليس ذات صلة بمعيشتهم. لا يهمهم ما يحدث في واشنطن أو لندن أو حتى بغداد. الجيل الأكبر سناً كان لديه فضل إدراك للربط بين الأشياء، كيف يمكن أن يؤثر حدث هناك على هنا، واحتمالية اختفاء بعض الوظائف أو نشوب حرب. كان لذلك أهمية لأن التاريخ له أهمية. كان لدى المرء شعور بأنه بسبب الحروب والمجاعات والأمراض والحلقات الاقتصادية التي لا ترحم، لا يمكن للمرء في الواقع التحكم في حياته. ولكن الأجيال التي جاءت بعد ذلك، شعرت بأنها تمكنت على السيطرة على التاريخ وأنه لم يعد يمثل تهديداً، كما هو الحال مع شلل الأطفال. الاستثناء الوحيد في حياتي هو حرب فيتنام. كانت النتيجة هي الغضب الشديد، وانفجر حرم الجامعات. وسوف تغير حالة الغضب القادمة من الوضع السياسي خلال عصرنا. على باراك أوباما أن يبحث عن كيفية التعامل مع ذلك، كما فعل فرانكلين روزفلت، وإلا فإنه سوف يتلقى ضربة قوية، كما كان الوضع مع ليندون جونسون. وربما يكون التحدي الماثل أمام أوباما أكبر من التحدي الذي واجهه فرانكلين روزفلت. كان الشعب في العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي قوياً. ولم يكن يتوقع كل ذلك، وتعود على ألا يتوقع سوى القليل من جانب الحكومة. ولكن، على النقيض، نحن ضعاف مدللون. فكرنا بالفعل في أنه يمكننا امتلاك منزل ليس معنا ثمنه ورهناً عقارياً لا يمكننا دفع مقابله وأن ذلك سوف ينجح بصورة من الصور. وما زال يطلق على ذلك الحلم الأميركي. ولكن، كان في الواقع هو الوهم الأميركي.

هرب زيوغ إلى النمسا في عام 1934 وانتقل إلى إنجلترا وبعد ذلك إلى أميركا ووصل في النهاية، لسبب ما، إلى البرازيل. كان يشعر بالأمان هناك كما كان يشعر في أميركا، ولكن عالمه الذي كان آمناً ومريحاً ولّى وانقضى. أصبح كاتباً منبوذاً من فيينا. كان التاريخ قد خرج صارخاً من ألمانيا وسوّى كل شيء بالأرض.

*خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ«الشرق الأوسط»