أسبوع الإلهام

TT

بعد شهر من الانهماك في إجراءات التعيين، جاء الأسبوع الماضي بمثابة أسبوع الإلهام بالنسبة لإدارة أوباما، ففي ثنايا خطاب ألقاه بقاعدة كامب ليغون، تعهد الرئيس أوباما «بالنجاح» في التعامل مع ما سبق أن وصفه عندما كان مرشحاً رئاسياً بـ«الحرب المضللة» في العراق، وعمد إلى الإبطاء من سرعة تنفيذ وعده بسحب القوات من هناك، وتعهد بالإبقاء على قوة عسكرية كبيرة لدعم الديمقراطية العراقية، علاوة على نسبه لنفسه الفضل فيما يخص «استراتيجية جديدة» تعد بصورة كبيرة تطبيقا لخطة بوش. أصبح المرشح الرئاسي الداعي للسلام القائد الأعلى للقوات المسلحة.

أما على صعيد السياسات الداخلية، كان الإلهام مختلفاً، حيث تميز المرشح أوباما بنبرة معتدلة، وبدا براغماتياً عاقداً العزم على خلق مزيج بين توجهات الحزبين الديمقراطي والجمهوري والخروج بنمط جديد من السياسات التي لا تنتمي لحزب بعينه. وبدا أن التعيينات التي أقرها في المناصب الاقتصادية الرئيسية تؤكد هذا العزم. ورغم ارتفاع تكاليف واتساع نطاق حزمة الحوافز الاقتصادية ومبالغ الإنقاذ المالي التي اقترحها، فإنها لا تعكس توجهاً آيديولوجياً راديكالياً.

ثم جاءت الميزانية، التي اتسمت بالطموح آيديولوجياً، والقسوة سياسياً والراديكالية في جوهرها.

لقد اختار أوباما فترة تعاني فيها البلاد من ركود لاقتراح تصعيد هائل في التوجهات التقدمية في البلاد، من خلال تحميل الأغنياء عبء تقديم 10 تريليونات دولار على امتداد عشر سنوات، رغم ما يعانونه بالفعل جراء انهيار أسواق الأسهم وانحسار سوق العقارات. ولا تقوم التوجهات الجديدة على مجرد إلغاء التخفيضات الضريبية التي أقرها بوش، وإنما كذلك وضع حد أقصى للتخفيضات الضريبية، بحيث تجري جباية حوالي 30 مليار دولار سنوياً. وبالرغم من كل الخطابات التي تطلقها الإدارة الحالية عن «المسؤولية» والتضحيات المشتركة، فإن الرسالة التي تحملها ميزانية أوباما واضحة: أن الأثرياء مسؤولون عن الفوضى الاقتصادية وسيتحملون مسؤولية تقديم كافة التضحيات حتى تتمكن الحكومة من «الاستثمار» في الأفراد.

لكن الحكومات لا «تستثمر»، وإنما تنفق، وهذا الإنفاق قد يكون مبرراً أو غير مبرر. أما الأفراد الأثرياء فهم الذين يستثمرون أموالهم بالفعل في خلق فرص العمل. ولدى غالبيتهم الآن قدر من رأس المال أقل مما اعتادوه. إلا أنه لا يبدو أن هذا الأمر يشكل أهمية في إطار وجهة النظر العالمية الاقتصادية التي تقوم عليها ميزانية أوباما. الواضح أن الهدف الرئيسي وراء هذه الميزانية ضمان المساواة، وليس خلق الفرص أو دفع عجلة الاقتصاد. وفي إطار هذا التوجه، يسود الاعتقاد بأن الحكومة لديها قدرة أكبر على استثمار الثروة الوطنية عن الأوتوقراطيين الذين تشوهت صورتهم، والمقصود بهم الأسر التي تتمتع بمصدري دخل، والمقاولين والمهنيين.

والواضح أن هذا الفكر لا ينطوي على رفض فكرة أن تقديم الخصومات الضريبية وغيرها من المنافع للأنشطة التجارية سوف يعود بالنفع على كافة المواطنين فحسب، وإنما يلحق الضعف بالأسس النظرية للرأسمالية، التي ترى أن الأفراد العاملين بحرية بصورة عامة أكثر تعقلا وكفاءة في اتخاذ القرارات الاستثمارية عن المخططين الحكوميين. كما اتضح هذا التحول الآيديولوجي في أسلوب تعامل أوباما مع الأعمال الخيرية، حيث تسعى الميزانية الجديدة لجمع مليارات الدولارات من أجل إصلاح الرعاية الصحية من خلال الحد من التخفيضات الضريبية المرتبطة بالتبرعات الخيرية المفروضة على الأغنياء، مما ينطوي على ادعاء مباشر بأن الخير الذي ستحققه الإنفاقات الحكومية أكثر أهمية من ذلك الذي يقوم به الأثرياء، بالرغم من أن هؤلاء الأثرياء هم الذين يتقدمون في الغالب بتبرعات ضخمة تساعد على استمرار عمل الكليات والجامعات والمستشفيات التعليمية. وإذا كانت الحكومة تتمتع بطبيعتها بقدرة أفضل على اتخاذ القرارات المتعلقة بالأعمال الخيرية التي تخدم الصالح العام، فلماذا لا نحول كافة أنظمتنا التعليمية والطبية إلى القطاع العام؟ في الواقع، يبدو أن هذا هو الهدف.

على الصعيد العملي، تحمل الوعود بتوفير سلع عامة باهظة ومشتركة بالاعتماد كلية على الأغنياء قدرا كبيرا من الخداع. في الواقع، إن جزءا كبيرا من التخفيضات في النفقات الواردة في الميزانية لا يعدو كونه وهماً يقوم على الافتراض الزائف بأن الإنفاقات على حربي العراق وأفغانستان سوف تستمر على مستويات مشابهة إلى الأبد. كما تفتقر توقعات النمو التي تعتمد عليها الميزانية إلى الواقعية. ولا تتناول الميزانية على نحو ملائم أزمة الالتزامات المتعلقة بالأمن الاجتماعي والرعاية الصحية التي من المتعذر استمرار تلبيتها. علاوة على ذلك، يعتبر مبلغ الـ634 مليار دولار الذي خصصته الميزانية لإصلاح الرعاية الصحية بمثابة دفعة مقدمة، ربما لا تتجاوز ثلث التكاليف المستقبلية.

إذاً، من سيتحمل في نهاية الأمر تكاليف هذه الديون المتسارعة، التي يتحملها حالياً بصورة مؤقتة الصينيون وآخرون؟ مع انتقال نسبة الديون الوطنية من إجمالي الناتج المحلي من حوالي 40% إلى ما يقرب من 70%، لن يتبقى عدد كاف من الأغنياء في البلاد لاستنزافهم. وبمجرد استعادة الاقتصاد عافيته، سيصبح من الحتمي فرض زيادات ضريبية واسعة، أو سيتجه أوباما لفرض أعباء هائلة على عاتق الجيل القادم.

ومن ناحيتهم، يأمل المحافظون في أن تسفر شطحات أوباما وغطرسة كل من هاري ريد ونانسي بيلوسي عن ردود فعل عكسية، بحيث تدفع الأسواق إلى التمرد وتوحيد صفوف القاعدة الجمهورية وإثارة المخاوف بين الديمقراطيين من أنصار التوجهات المالية المحافظة. لكن مثلما نبهني أحد المسؤولين الأكاديميين بجامعة برنستون مؤخراً، فإن هذه السياسات «تعد شطحة فقط حال إخفاقها». في تلك الأثناء، تعلمنا بالفعل بعض الدروس المهمة. على صعيد السياسة الدفاعية، اتضح أن المرشح الرئاسي المناصر للسلام ليس راديكالياً. وعلى صعيد السياسة الاقتصادية، فإن السياسات التي لا تنتمي لحزب بعينه تعكس في حقيقة الأمر طابعاً حزبياً أقوى. إن أوباما لا يرمي لتعزيز المحافظين، وإنما لسحقهم، وهذا هو الإلهام.

* خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ«الشرق الأوسط»