يسألونك عن السودان و.. «إنقاذه»

TT

عندما يسأل المراقب العربي مثل حالنا وهو يتأمل المشهد السوداني المضحك المبكي: ماذا سيفعل الأشقاء العرب بالنسبة إلى الرئيس عمر حسن البشير وهل سيتركونه يواجه عاصفة المحكمة الجنائية وحيداً، يأتي الجواب: سامح الله عمر. لقد قيل له أكثر من مرة ومنذ أن باتت مسألة المحكمة في ضوء المعلومات المؤكدة أمرا محسوماً غير قابل للتراجع، لكن الأخ عمر لسبب لا يدري المرء طبيعته لم يأخذ بالرأي ولا هو تجاوب مع النصيحة.

وعندما يبحث المراقب عن المزيد من التوضيح وهل أن الضغط العربي ليس في استطاعته تعديل مسار عملية المحكمة، يأتي الجواب: أي ضغط هذا يمكن أن يحدث. ما هو ممكن من جانب أي دولة عربية لا يتجاوز بعض الاتصالات المرفقة بالتمنيات بأن يتم تأجيل القرار لمدة سنة، وخلالها ربما يستطيع بعض القادة إقناع الرئيس البشير باعتماد شيء من المرونة.

وعندما يسأل المراقب نفسه عما إذا كانت المرونة تعني أن يستدير الرئيس مائة وثمانين درجة وكيف سيكون وضعه في نظر الناس خصوصاً أن حزبه وجماعة «الإنقاذ» يخططون من أجل ولاية رئاسية جديدة له، يأتي الجواب: عندما يكون الوطن عرضة للتهديد فإن التضحية تصبح واجباً لا بد لرجل الدولة صاحب القرار من أدائه. وفي اعتقادنا أن الرئيس البشير كان في استطاعته أن ينعطف بدل أن يستدير، أو بالأحرى تحاشياً من جانبه للنقد الخشن من جانب خصومه في حال استدار. وما نعنيه بالانعطافة هو التأمل في واقع الحال وفي ما يمكن أن يحدث ثم يتم استخلاص الخيار الأقل ضرراً.

وعندما يسأل المراقب نفسه عما إذا كان المقصود بالانعطافة هي تسليم الثنائي أحمد هارون وعلي كوشيب واعتبارهما فحيمة والمقرحي (رمزا التضحية الليبية) بطبعة سودانية، يأتي الجواب: ربما بذلك تتحقق معجزة النجاة وتستتبعها خيارات تُمكّن الرئيس البشير من نيْل الولاية الرئاسية الجديدة وأيضاً من إقناع الشريك الجنوبي بأن أسلوب التذبذب يجب أن يوضع له حد وعلى قاعدة الشريك أحق من الحليف، تماماً مثلما أن الجار القريب أولى من الصديق البعيد على نحو المثل الشعبي السائر. واستكمالا لهذه النقطة بالذات يمكن القول إن الرئيس البشير كان في استطاعته إخضاع الكبشيْن الجنجويديْن إلى محاكمة متجردة وإصدار الأحكام النزيهة في حقهما. وبدل أن يرفض ذلك متباهياً بالحرص عليهما وعدم تسليمهما واستنباط مفردات وعبارات لتأكيد هذا الرفض وصل إلى حد أنه أقسم بالطلاق، فإنه بهذه المحاكمة والأحكام التي تصدر عنها يجد أشقاء عرباً وأجانب يساندون محنته وفي الوقت نفسه يتعالى على جراح التجاوب الاضطراري مع مسألة دولية وقانونية. كما أنه لو صدرت الأحكام من المحكمة السودانية ووافق على إرسال الكبشيْن مخفوريْن إلى سجن «كوبر» مع التوصية بإقامة مريحة لهما ثم يحين ذات يوم الأوان ويتم الإفراج عنهما فإنه كان سيومئ بإصبعيْ النصر على المخطط والمخططين ويُبقي السودان تحت خط السلامة.

ويسأل المراقب مثل حالنا نفسه أيضاً: الآن باتت خطوة الانعطافة متأخرة وباتت تبعاً لتلك الفأس في طريقها إلى الرأس، فما العمل؟ وهل هنالك ما يمكن إنقاذ «الإنقاذ» وإنقاذ السودان من غدر دولي مباغت ليس بالضرورة أن يكون مثل غدر الثنائي بوش الابن وطوني بلير بالعراق؟

ويأتي الجواب بأن ما أصاب العراق كان في بعض جوانبه نتيجة تقديرات غير دقيقة وغير موضوعية من جانب الرئيس صدَّام حسين للموقف الدولي، حيث إنه تعامل بمنطق التحدي والرفض والتظاهرات مع أن بعض الكياسة من جانبه كانت ستنقذ العراق من شر الحصار وكان الشعب العراقي سيبدي امتنانه لرئيسه لأنه ارتأى التراجع عن التحدي واعتبر أن عنفوان الحاكم ليس أهم من طمأنينة الناس. وعلى ضوء ذلك فإن الرئيس البشير بدل استنساخ الأسلوب الصدَّامي الصِدامي وأسلوب الرئيس محمود أحمدي نجاد التهويلي وكذلك بدل الإغراق في خضم الاستخارات والغيبيات اعتمد الموقف الحكيم، فإن الأشقاء العرب كانوا سيصطفون حوله مقدمة لانتشاله من براثن المحكمة الجنائية أو بالأحرى المحكمة المتجنية وكان لن يكتب بنفسه في تاريخ بلده إنه إذا كانت المحكمة متجنية فإنه هو الآخر تجنَّى على بلد يتوق أهله إلى الاستقرار النسبي نتيجة اتفاق السلام والتشارك مع سودان الجنوب الذي تحقق على عهده، أي عهد البشير، بعدما اكتوت الأبدان السودانية بالتداعيات الناشئة عن حروب ونزاعات وصراعات مقيتة على السلطة ودفاعات مستميتة من أجل الاستفراد بهذه السلطة وعدم إتاحة المجال أمام المشاركة. ونقول ذلك على أساس أن الأمور ما زالت في البداية وأن الحصار الجوي والغذائي ربما يحدث. وإذا كانت ليبيا في زمن الحصار داوت الأمر بالقدرات المالية المتوفرة ومع ذلك لم يجد العقيد القذافي مفراً من الاستدارة أو الانعطافة، فكيف هي الحال بالنسبة إلى السودان الذي بالكاد يتفادى الشعب فيه الضائقات على أنواعها بالصبر.. الذي له حدود. ثم ألا يتذكر الرئيس البشير كيف أنه لولا النجدات السودانية من اللحوم للعراق لكانت أكثرية العراقيين في زمن الحصار اشتهت قطعة اللحم وكانت قبل الحصار تملأ الثلاجات بما يزيد على حاجة أفراد الأسرة لالتهام اللحوم.

وعندما يسأل المراقب مثل حالنا نفسه ما الذي يراه الرئيس البشير خطأ إن هو اختار افتداء السودان بالكبشيْن هارون وكوشيب بدل القول إنه لن يسلِّم ولو قطة إلى أوكامبو الذي شمله القصاص البشيري الحذائي، يأتي الجواب: إذا كان الرئيس البشير رمى في السجن عدة مرات صاحب «نظرية الإنقاذ» الشيخ حسن الترابي وشتَّت شمل رفاقه الترابيين وبذلك خالف صفة أنه «أخو إخوان»، وعلى نحو ما سبق وفعل الرئيس الراحل حافظ الأسد بصاحب «نظرية البعث» المرحوم الأستاذ ميشال عفلق حيث طارده وحكم عليه وشتت شمل العفالقة، ثم ما فعله الرئيس السوري الراحل بشقيقه رفعت وذلك بهدف ألاَّ تهتز دعائم الاستقرار الذي حققه لسورية.. إنه إذا كان الرئيس البشير فعل بالترابي والترابيين ما فعله فما الذي يضيره لو استنسخ أسلوب الأسد الأب على خشونته وقال للكبشيْن هارون وكوشيب: ادخلا «كوبر» فأنتما السجناء من أجل ألاَّ يتأذى السودان الشعب والنظام والكيان؟ وجوابنا إنه لو فعل ذلك لكان اختار الصيغة الإنقاذية، لكنه لم يفعل مع الأسف.

وخلاصة القول إن الرئيس عمر حسن البشير تصرَّف مع المجتمع الدولي كتصرُّف جنرال مع أفراد فرقة عسكرية يقودها وليس كرجل دولة. ومن البدهيات بالنسبة إلى رجل الدولة والأكثر سلامة له هو أن يلقي الخطاب مكتوباً ولا يتفاعل مع ضوضاء الجماهير، وألاّ يقول إن أخصامه بدءاً بالمحكمة وقضاتها ومدعيها العام تحت جزمته، كما لا يعلن على الملأ أنه سيطرد سفراء دول أجنبية وجمعيات تابعة للأمم المتحدة ولا يهدد وهو في محنة بالويل والثبور وعظائم الأمور وإنما يتذكر ماذا فعلت عبارات التحدي وبالذات ما يتعلق بالشرب من البحر بكبير الرؤساء الثوريين جمال عبد الناصر الذي رحل مقهوراً وبثاني الرؤساء الثوريين العرب شأناً صدَّام حسين الذي رحل قاهراً ثم مقهوراً فمشنوقاً. وإذا كانت غابت عن الذاكرة البشيرية وقائع قديمة فإن عبارة صديقه العقيد معمر القذافي «طز في أميركا» لم ينشف حبرها بعد وكلفت رجل ليبيا القوي ما لا يتمنى الإقدام عليه.

خلاصة القول أيضاً: إذا كان رئيس السلطة الأُولى في البلد لم يأخذ كخطوة أُولى ومن قبل تفاقُم الأزمة بصيغة حكومة الاتحاد الوطني مع الكثير من التنازل عن «ثوابت إنقاذه» فكيف سيلتف الرأي العام معه بما يجعله في منأى عن انكسار المهابة؟ ثم أين هم المستشارون وما أكثرهم وأحذقهم إلاَّ إذا كانت تنطبق على حالة هؤلاء روحية قول الإمام علي بن أبي طالب «ما أكثر العِبَر وأقلّ الاعتبار».. ونعني بذلك ما أكثر المستشارين وأقلَّ الإصغاء إليهم بدل الأخذ بتحريضات المساعدين وقول كُبرائهم بأنهم جاهزون للمنازلة وتقطيع الأوصال وتحطيم المحكمة الجنائية التي هي في نظرهم «فأر ميت» يا لغرابة هذا القول بالذات لسعادة الأخ عبد المحمود عبد الحليم الذي قاد «المواجهة» في نيويورك بدل إطفاء النار الآتية من الخرطوم. وهذا التساؤل في حد ذاته يجعلنا نفترض أن «الإنقاذ» الذي يؤكد رئيسه البشير أنه سيجنِّن المجتمع الدولي وكأنما هذا المجتمع عاقل في الأساس، قد لا يستطيع بغير الاستدارة إنقاذ السودان لأن مباركة زعيم «حماس» خالد مشعل وأدعية إخواننا الإيرانيين وتحفظات الرفاق الصينيين ليست الرادع الكافي لاتقاء شرور الطامعين بالسودان الذين يمتطون خيول أشرار الجنائيين.. المتجنين.