إيران بين متغيرات الظروف ومتغيرات السياسات

TT

ما عرفت وسائلُ الإعلام الكثير عن زيارة وزير الخارجية الإيراني للمملكة العربية السعودية، ومضامين الرسالة التي حملها من القيادة الإيرانية للقيادة السعودية. بيد أنّ تعليق الأمير سعود الفيصل على الزيارة في مؤتمره الصحافي يحمل في إيجازه فكرةً عمّا دار خلال الزيارة من نقاشات. قال الوزير السعودي إنّ مساعدة إيران للعرب مُرحَّب بها، لكنها ينبغي أن تأتي من بوابة الشرعية العربية. والشرعية العربية تتمثَّلُ في الدول ورسميّيها، بينما دأبت إيرانُ خلال الأعوام الماضية على التواصل والدعم للحركات الثورية الإسلامية والمعارضات، وفي مواجهة الدول أكثر مما هو في مُواجهة إسرائيل أو الولايات المتحدة. وقد تجلَّى ذلك في خطَّين: خطّ دعم التجمعات المذهبية المتناغمة معها في أنحاء العالم العربي، وخطّ دعم الحزبيات الإسلامية الثورية في أنحاء شتّى من العالم العربي أيضاً. وفي المجال أو الخطّ الأول ظهرت عصبويات أثّرت على الوحدة المجتمعية في الدول والمجتمعات العربية. فالسنة والشيعة يعيشون معاً في بلدان المشرق العربي منذ عدة قرون، وقد كانت بينهم اختلافات دينية ومذهبية في المدى التاريخي المتطاول. لكنْ لأن جذور الاختلافات زال أكثرها؛ فإنّ العقود الأخيرة قلّلت من شأنها وتأثيرها. وقد كان مفهوماً أن تُحاولَ إيران إثارة التضامُن معها إبّان الحرب العراقية/الإيرانية من جانب الشيعة العرب. لكنّ الحرب انتهت بقرارٍ دولي هو القرار رقم 598 للعام 1988، وسادت بعدها حقبة من الاستقرار أَنْسَت الناس أكثر الحساسيات. على أنّ «مجموعات التضامُن» وتنظيماته ما انتهت بنهاية الحرب، وعودة السكينة؛ بل إنّ إيران احتفظت بها، ثم أيقظتْها على مشارف القرن الواحد والعشرين فتسبَّبت في أمرين اثنين: إحداث توتُّر متصاعد بين السنة والشيعة داخل أقطار العالم العربي يقوم على اصطناع وعي بالحساسيات التاريخية، وإيقاظ مشاعر بشأن المظالم الحقيقية والمتخيَّلة، وتشجيع انشقاقات رأسية بداخل تلك المجتمعات تمثّلت أحياناً في صِيَغٍ هجومية، وأحياناً أُخرى في انكفاءٍ وانعزال. والواقع أنّ إيران ما انفردت بذلك؛ بل شاركها في ذلك النظامان بالعراق وسورية وباتجاهين مختلفين. أمّا النظام العراقي السابق فبسبب توجُّسه من المعارضة الداخلية، ثم بسبب الحرب التي أَنْشبها مع نظام الجمهورية الإسلامية. في حين كان النظام السوري يعتبر نفسَه راعياً للأقليات الشيعية والمسيحية في لبنان وسورية والعراق، ويتبادلُ مع بعض نخبها ممارسات الفصم والفصل والتمييز والامتياز. وقد دفع ذلك العاهل الأردني للقول مرةً بأنّ إيران تقيم هلالا شيعيا داخل العالم العربي؛ ثم تحدث فيما بعد عن هلالٍ إيراني. أما الخطُّ الثاني للاختراقات الإيرانية فهو خط الحركات الثورية الإسلامية (السنية) والمعارضات بداخل البلدان العربية ومن المشرق إلى المغرب. وقد كنا حتى مطلع القرن الواحد والعشرين نسمع الشكوى من حركة حماس لعدم دعم إيران لها رغم التشابُه الآيديولوجي، ثم صار ذاك الدعم مطلقاً بعد عام 2003. وإذا فهمنا ذلك في حالة حماس باعتباره دعماً في مواجهة إسرائيل، فكيف نفهمُ دعم المعارضات الإسلامية في مصر وبلدان المغرب العربي؟ ومرةً أُخرى إذا تفهَّمْنا دعم حزب الله في وجه إسرائيل، فكيف نفهمُ دعمه في الاعتصام بوسط العاصمة اللبنانية لأكثر من عام، ثم الدخول إلى بيروت بالسلاح، وإقدام حماس على الاستيلاء على غزة، وتصعيد التوتر في البحرين والكويت. وقد دفع ذلك رجلا صديقا لإيران مثل الشيخ يوسف القرضاوي للحديث عن التشيُّع الديني أو المذهبي. وأظهر المغرب تذمراً أوصل لقطع العلاقات. وظهر تذمر مماثل في سورية والسودان وتونس ولبنان.

لماذا فعلت إيران ذلك؟ كان الخطابُ العامُّ الظاهر يقول إنه عمل ضد الولايات المتحدة ومصالحها، وضد إسرائيل. أمّا في الأحاديث الخاصّة فكانوا يقولون لنا تارةً إنها مشكلات داخلية لا علاقة لهم بها، أو أنّ الحكام العرب متخاذلون أمام أميركا وإسرائيل، وهم يريدون معاقبتهم! لكنْ في تلك الأعوام الصعبة (2001-2006) ما كانت العلاقاتُ بين أميركا وإيران سيئة؛ وبخاصة أنهم أعانوا على غزو العراق وغزو أفغانستان. وظلت الولايات المتحدة تعتبرهم شركاء في هذين الملفَّين حتى الآن. فقد أجْرت حوارات مع إيران بشأن العراق، ودعت إيران قبل أيام إلى المشاركة في حوارٍ بشأن الأوضاع في أفغانستان؛ باعتبار أنّ عودة طالبان تُهدّد الطرفين الإيراني والأميركي. وهذا في الوقت الذي كان فيه العربُ الكبارُ مُحاصَرين من جانب الولايات المتحدة باعتبار أنّ المتطرفين أتوا من البلاد العربية، وأنّ تلك الأنظمة غير ديمقراطية! ومن المعروف أنّ القيادة السعودية ظلّت على تواصُلٍ مع إيران بشأن التوترات في لبنان على الخصوص، إلى أن قطعت الأمل من إمكان التعاوُن في التهدئة، فانقطع التواصُلُ بعد العام 2006. وهذا ما عبَّر عنه الأمير سعود الفيصل في اجتماع مجلس وزراء خارجية الجامعة العربية بالقاهرة بعد حرب غزّة عندما قال إنه لا بد من تضامُنٍ عربيٍ في وجه التحدي الإيراني في الأمور التالية: الملف النووي، وأمن الخليج، والتدخل في لبنان وفلسطين.

فالذي يبدو أنّ إيران أرادت الإفادة من سياسات إدارة بوش في الاتجاهين. فعندما كانت الولايات المتحدة في حالة هجومٍ بمنطقتنا وبالعالم بحجة مكافحة الإرهاب، تمددت معها إيران على الخطوط نفسِها. وعندما تراجعت الهجمة الأميركية بعد العام 2005 من أجل إعادة التقييم بسبب الانتكاسات، أرادت إيران الإفادة أيضاً بتثبيت مواقع النفوذ في المناطق التي تنحسر عنها الولايات المتحدة أو التي صارت عندها مُشكلات فيها، والمناطق والمجالات المفيدة في إظهار القوة والاقتدار.

والذي يبدو الآن أيضاً أنه مع انتهاء عهد بوش، وإعلان أوباما عن سياساتٍ أُخرى أو معاكسة تتمثل في العودة إلى الشرعية الدولية وإلى الدبلوماسية والتوافُق، والحوار مع سورية وإيران؛ فإنّ إيران تقف «وقفةً تعبويةً» بالمصطلح العسكري لاختبار إمكانيات التلاؤم، وحساب الأرباح والخسائر، والاستعداد لترتيب ملفات التفاوُض مع الولايات المتحدة. وعلى وقْع هذه التطورات، نجد أنّ سورية حليفة إيران الإستراتجية، ورغم حرب غزة؛ ما تزال تُصرُّ على التفاوُض المباشر مع إسرائيل إنما برعايةٍ أميركية. وإيران التي أصابتها الأزمة المالية العالمية في الصميم، تنخفض لديها لهجة الرئيس نجاد المتشدّدة. والإصلاحي الراديكالي خاتمي يتخلَّى عن الترشُّح للرئاسة لصالح مير حسين الموسوي الإصلاحي المعتدل. وتُظهر بالعراق حركيةً ذاتيةً لا تبدو فيها اليد الإيرانية ثقيلة الوطأة. وحزب الله الذي أصرَّ مع حليفه الجنرال عون وطوال سنتين على أنهما يملكان الأكثرية الشعبية، يعود للقول إنه مُصِرّ على المشاركة، وحكومة الوحدة الوطنية بعد الانتخابات! وأخيراً وبعد الهياج الإيراني والقطري والسوري على مصر.. والسعودية كما ظهر في «مؤتمر غزة» بالدوحة، يأتي وزير الخارجية الإيراني إلى السعودية بعد طول هجرانٍ، لتجديد الاتصال، واستكشاف إمكانيات التعاون من جديد.

إنّ هذه الأمورَ كلَّها هي تعبير عن متغيرات لدى سائر الأطراف الدولية الإقليمية والمحلية. إنما ما هو غير معروف رغم بروز المسار الجديد، كم تترك تلك الظواهر من آثار على السياسات والسلوكيات الإيرانية السابقة. على أنّ الأمر هذه المرة أكثر وضوحاً بكثير. فقد حدَّد وزير الخارجية السعودي نقاط الخلاف، ويكونُ على إيران أن تحدِّد موقفها منها، وهل هي على استعدادٍ بالفعل للتغيير. وإن غداً لناظره قريب!