المذهب الأخلاقي على الرف

TT

انتهى القرن التاسع عشر، كما نعرف جميعاً، ليس في عام 1900 ولكن بعد ذلك بـ14 عاما، عندما اغتال غافريلو برينسيب الأمير فرانز فرديناند في سراييفو، وتحول العالم إلى حالة من الجنون. وبطريقة مشابهة لم ينته القرن العشرين إلا في العام الحالي، عندما قال الرئيس الأميركي ضمنيا، من بين أشياء كثيرة، إنه لا يستبعد الحديث مع العناصر الأكثر اعتدالا في حركة طالبان. فقد انتهى ما أسماه هنري لوس «القرن الأميركي». وتعد رغبة أوباما الظاهرة في تقسيم حركة طالبان إلى جزء بغيض وجزء أقل بغضا، مجرد إشارة أخيرة إلى أن واقعية عقيمة ولكنها ضرورية تسيطر على السياسة الخارجية الأميركية. وفي الأيام الأخيرة فقط، أشارت إدارة أوباما إلى أنها ترغب، في اللحظة الراهنة، في أن تمسك عن الحديث عن الإساءات الكبيرة التي ترتكب ضد حقوق الإنسان في الصين، وأنها تضغط على «زر إعادة» العلاقات إلى سابق عهدها مع موسكو، على الرغم من نظام ستالين الجديد الذي يتبعه فلاديمير بوتين. أما عن رغبة إسرائيل في توسعة مستوطناتها في الضفة الغربية، فقد نددت بها وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون بأنها «غير مفيدة»، وهو تعبير عن التوبيخ، الذي يجب أن يظهر في النص المكتوب بحروف مائلة.

وتجري إدارة أوباما مباحثات مع السوريين. وترغب في الحديث مع الإيرانيين. وسوف تتفاوض مع الكوريين الشماليين. وقد ابتعدت عن «محور الشر»، وتراجعت عن اللغة الرفيعة التي كانت سائدة في سنوات حكم بوش، وخاصة كل ما يقال عن الحروب ضد الإرهاب ونشر الديمقراطية. إن هذه إدارة تمنح شعورا قويا لبرنت سكوكروفت، الواقعي البارز الذي لم يخلط مطلقا بين السياسة الخارجية والعمل التبشيري، على الرغم من أن كليهما في الغالب يقع خارج البلاد.

ويعتبر ذلك جيدا إلى حد كبير. وكان جورج بوش قد بدأ في إدراك أنه مبالغ في حلمه وأنه لم يجد من يتفهمه ويحلل سياساته جيدا. وتدخل الحرب في العراق عامها السابع، وتستمر الحرب في أفغانستان منذ فترة أطول. وقد رحلت حركة طالبان وعادت، وتوقفت حركة الديمقراطية في الشرق الأوسط بسبب فقدان الحماس، ناهيك عن نقص الزعماء الديمقراطيين.

ولن يجد أوباما رد فعل سيئا من اليسار بشأن سياسته الخارجية. وكانت الليبرالية تحتوي على عنصر أخلاقي معلن. وهو ما أصبح الآن، وفي مبالغة كبيرة، مهمة الاتجاه المحافظ. وقد نشرت مجلة «نيويورك ريفيو أوف بوكس» الليبرالية خطابا مفتوحا من الأدباء البارزين يطلبون فيه من الرئيس المنتخب باراك أوباما «التفاوض مع طالبان، وسحب جميع القوات من أفغانستان». ولم يذكر أي شيء عن الدولة متزعزعة الاستقرار المجاورة لأفغانستان، وهي باكستان، بأسلحتها النووية.

وهنا يكمن الخطر الذي يخوض فيه أوباما. إن حركة طالبان شريرة. وهم يقتلون معارضيهم، ويسيئون إلى النساء، وعندما كانوا يسيطرون على أفغانستان، كانوا يحمون تنظيم القاعدة. وفي فيتنام، كان من الممكن دائما التأكيد على أن الشيوعيين إصلاحيون زراعيون بالفعل، أو بعض من تلك الصيغ الغافلة، لذا عندما توقفت الولايات المتحدة، كان الرعب الناتج مفاجأة للبعض. ولكن لا يمكن أن يندهش أحد مما ستفعله طالبان. وفي الماضي القريب، فعلوا هذا بالفعل.

وقد طلب وينستون تشرشل ذات مرة من زوجته أن ترفع البودنغ من على المائدة؛ لأنه «بلا فكرة رئيسة». وعلى الطريقة ذاتها، تفتقد السياسة الخارجية «الواقعية» إلى فكرة رئيسية أو بطريقة أكثر تحديدا، إلى الرغبة العارمة في فعل الخير. إن أعداء أميركا لم يكونوا مطلقا مجرد خصوم لنا؛ لكنهم أشرار. ونحن في جانب الخير. وهذه هي الطريقة التي نرى بها أنفسنا. وكان التخلي عن فيتنام مقزز للنفس. ولن يختلف عنه تشويه طالبات المدارس على أيدي متعصبي طالبان.

يحق لأوباما أن يكون واقعيا وأن يتخلى عن الحديث المنمق، حيث إن الاتجاه الأخلاقي مكلف، في الأرواح والأموال. وهذا هو الواقع الجديد. والخطر هو أننا سنتحول إلى الداخل، ليس تجاه العزلة لأنها مستحيلة، ولكن سنكون مستنزفين ماليا وغير مبالين تماما تجاه بقية العالم.

وهذه هي اللحظة السعيدة الصعبة لرئيس شاب. فهو ينهي قرن، ويبدأ آخر. وكان ضروريا أن يضع اتجاهه في السياسة الخارجية كدعاية لكتاب أعيد نشره حديثا لعالم اللاهوت الراحل راينولد نيبور. وقد كتب أنه استخلص من أعمال نيبور «الفكرة المؤثرة التي تقول إن هناك شرا خطيرا في العالم ومحنا وآلاما». وأضاف: «يجب علينا أن نكون متواضعين ومعتدلين في اعتقادنا بأنه في إمكاننا القضاء على هذه الأشياء. ولكن لا يجب أن نتخذ هذا ذريعة للتشاؤم وعدم التصرف»

وهكذا، هذا هو مذهب أوباما: من الحكمة عدم فعل أي شيء على الإطلاق.

*خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ«الشرق الأوسط»