حوارات التليفزيون ورسائل القراء خطر على البيئة

TT

لا أدخن. ولا أقرأ رسائل القراء. لا أشارك في الحوارات التليفزيونية. السيجارة الأولى كانت السيجارة الأخيرة. تلقيتها مكافأة من زميل نشر في الجريدة التي كنت أحررها سلسلة مقالات ناقدة لبرامج الإذاعة. لما أعيت الحيل مدير الإذاعة لوقف المقالات، منح الزميل الناقد برنامجا إذاعيا.

زميلي القديم أصبح من كبار المدخنين، ومؤلفي البرامج الإذاعية والتلفزيونية. هو اليوم يمشي الهوينى على أربع عجلات. فقد أحرق الدخان قصبته الهوائية ورئتيه. أما أنا فلم أدخن السيجارة الهدية. لكن دخنت جميع أنواع السجائر التي نفخها أصحابها في وجهي. ما زلت أمشي الهوينى كصاحبي، لكن علي قدمي وليس علي أربع. وعشت وحملتني دروب الحياة، لأتمتع بقرار منع التدخين في المقهى الفرنسي الذي أجلس فيه.

قال لي جاري الفرنسي، الذي كان يتمتع بالتدخين في المقهى، إن منع التدخين خطأ حضاري كبير. استغربت، فقال: إن إدمانه التدخين سيحرمه من العيش إلى اليوم الذي ستعود فرنسا نادمة عن الخطأ. أردف وهو يعض سيجارة وضعها في فمه ليدخنها في الخارج: «أليس من الأفضل أن نلوث، نحن المدخنين، البيئة في المقاهي والأماكن الضيقة، من أن نلوث البيئة الأوسع بالتدخين في العراء؟».

لا أكتب عن التدخين لأستفتي القراء. فقد انقطعت عن تدخين رسائل القراء، التي تلوث البيئة، البيئة السياسية والاجتماعية. لقيت الرسائل التي يدخنها الانترنت رواجا في الصحف. لكن نحن العرب تعودنا أن نبتذل كل جديد.

الكتابة إلى الصحافة ليست هواية. ليست تسلية في أوقات الفراغ. الكلمة موقف ورأي. لعل الـ«تايمس» اللندنية كانت، منذ القرن التاسع عشر، أول صحيفة تخصص زاوية لرسائل القراء، يحررها كتاب ومفكرون ومثقفون وساسة ودبلوماسيون كبار، إلى أن اشتراها روبرت مردوك، عاشق اقتناء الصحف، مقتربا بها من صحف الإثارة (التابلويد)، التي ضمها إلى إمبراطوريته الورقية.

هل رسائل القراء العرب إلى صحفهم علي هذا القدر والمستوي من المسؤولية؟ أبدا، فقد باتت خطرا على البيئة. رسائل تشرذم الرأي. تبعثر الموقف. معظمها يبدد أكثر مما يجمع ويوحد. بعضها حاقد علي كل ما هو عربي. لا يقدر عواطف أمة جريحة في كبريائها.

بعض كتبة الرسائل يوقعونها بأسماء مستعارة خوفا. ثم يتحدون الصحيفة والكاتب أن تكون لهما الجرأة في إبداء الرأي والموقف! الـ«إيكونومست» البريطانية، أعرق المجلات السياسية الغربية، تنشر رسائل طويلة للقراء، مرفقة بأسمائهم وعناوين إقامتهم، لتتأكد من أنهم قراء حقيقيون، وليسوا استعارة. في الواقع العربي المخيف، يمكن لكاتب الرسالة الصادق مع نفسه وصحيفته، أن يطلب منها إخفاء اسمه وعنوانه، توخيا للمحاذير الأمنية والسياسية.

زوايا الرسائل باتت انتقائية. محرر الرسائل يجب أن يكون أمينا على مهمته الصحافية. عليه أن يحيد موقفه السياسي، فيختار الرسالة الصالحة للنشر، وليست تلك التي توافق رأيه الشخصي، أو ترضي كاتبه المفضل، أو تلك التي تبتسر وتجزئ وتحرف ما قاله الكاتب. تحرير رسائل القراء فن صحافي في الاختصار. في العرض. في العنوان. في المباشرة، بحيث يبدو القارئ وكأنه يكتب إلى الكاتب رأسا، من دون تدخل المحرر في تقديم القارئ.

لهذه الأسباب، امتنعت صحف كثيرة عن نشر رسائل القراء، بعدما أفردت لها زوايا وصفحات. المشكلة أن الأغلبية القارئة صامتة. السياسي أو المثقف أو صاحب الاختصاص لا يكتب إلى الصحيفة. يخشي أن تدرج رسالته بين هذا «الكم» العادي من الرسائل، لكي لا أقول «السقيم» أو«المبتذل».

حوارات التليفزيون تحاكي رسائل القراء. مقياس النجاح أن يعثر مقدم البرنامج على متحاورين أبطال في الملاكمة والمصارعة، حتى إذا ما اشتد الصياح والضرب تحت الحزام، التفت الحكم (مقدم البرنامج) إلى النظارة نافخا صدره، معتزا بنتائج المباراة. ثم لا بد من نصب فخ للمتحاورين، بالاتفاق سلفا مع مشاهد أو أكثر، لإتمام المهمة بتوزيع الاتهامات والافتراءات عليهم، والنيل من كرامتهم.

هيكل الذي استأذن بالانصراف عن الكتابة، لم يستأذن بالانصراف إلى التليفزيون، حاملا معه حزمة الوثائق التي جمعها من خزانة الدولة في الزمن الناصري. الوثائق صحيحة، لكن تفسير هيكل لها، وتعليقه عليها بأسلوبه التقريري، وحسب هواه وغرضه السياسي، كل ذلك ينطلي على أجيال جديدة من المشاهدين سلبت منها ذاكرتها السياسية، أجيال تقف مشدوهة، فاغرة الفم أمام الأستاذ، ليلقنها التاريخ، كما يريد أن تعرفه وتراه.

هيكل ينفرد بالاستديو المجاور لقاعدة «العيديد»، لا يسمح لأحد بالتدخل والتعليق والاختلاف معه. لم يكد المعلم الكبير ينصرف عن تناول تاريخ دول الخليج، حتى انصرف بلا استئذان أيضا للنيل من تاريخ الهاشميين. لا أدري لماذا يسكت هيكل عن تاريخ، وينبش تاريخا آخر؟ لماذا لا يحكي للأجيال عن دوره، مثلا، في الانقلاب الساداتي على الناصريين السلطويين ورثة عبد الناصر؟

تفسير هيكل لوثائقه يندرج أيضا في بعثرة المواقف والآراء والأفكار، في وقت أحوج ما يكون العرب إلى نوع من الإجماع أو الاتفاق، وهم يمرون في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخهم الراهن، لم أسمع ولم أشاهد هيكل، لكن أقرأ ما يقول. لم أشاهد تليفزيون العيديد، إلا وأنا راقد في المستشفي قبل أربع سنين. تشاءمت آنذاك. لماذا هذه السحن الكئيبة التي يضفيها المذيعون والمراسلون ومقدمو البرامج على وجوههم الخشبية، لماذا الديكور الحزين، ووهج العدسة (الكاميرا) مائل للسواد؟

لهذه الأسباب، لا أشارك في تدخين السجائر التليفزيونية. لا أشارك في الحوارات. أتلقي اتصالات ودعوات. أعتذر. فأنا لا أدخن. سألني مرة مقدم برنامج أن أحاور الداعية أبا قتادة. آخر سألني أن أحاور أبا حمزة المصري. خفت من عدم التكافؤ في المباراة. أعرف أن أبا حمزة كان حارسا صنديدا على باب مرآب ثم ملهي، قبل أن يمتهن العظة والدعوة لابن لادن. ثم علق خطافا حديديا (شنغلا) معقوفا، محل اليد التي يقول إنه فقدها، مأسوفا عليها، في الجهاد في أفغانستان.

آخرون يسألونني أن أدخن في الشاشة أمام رؤساء لا مزاح معهم، من أمثال القذافي ونجاد، وأمام زعماء «معصومين» كخامنه ئي، وحسن حزب الله. أعتذر. استأذن بالانصراف بأدب. فأنا أوثر الكلمة المسئولة. الكلمة المكتوبة. لا أملك تليفزيونا. ولا أعلق «شنغلا» في اليد، لأحاور وأقنع به المحاورين علي الشاشة.