رفسنجاني.. شيخ الدولة والثورة!

TT

كان لافتاً للنظر، وأوهمَ المراقبين أموراً، استقبال رئيس جمهورية العراق للشيخ علي أكبر رفسنجاني، رئيس تشخيص مصلحة الدولة، من دون حساب للأعراف السائدة بين الدول، في تكافؤ المناصب، عند الاستقبال والتوديع. وأكثر من ذلك عَرفه الرئيس الطالباني بآية الله، وأحياناً العظمى، مع ما بين الرتب الدينية من فواصل، ينتبه إليها أصحابها! لذا توجهوا إلى مخاطبة الضيف بالشيخ، أو حجة الإسلام والمسلمين، وهو لقب يشترط العِمامة وقد لا يرتبط بدرجة اجتهاد. ولا أجد رئيسنا شاذاً عن السائر بعراقه، حيث تسدى ألقاب آيات الله والدكتوراه، لا على التعيين.

إن كائناً مثل رفسنجاني، رضع السياسة منذ وصوله إلى قم للدراسة، وهو شاب، حسب مذكراته، لا مجال له في التحصيل الفقهي، حتى يُعد من آيات الله وحججه وتكريس البركات في شخصه، إلا أن رئيسنا عندما عدَّ زيارته إلى بغداد بالنعمة الإلهية، أحسبه رمى إلى سدِ بوابة، عرضها 1200 كيلومتر، مفتوحة على مصراعيها لزحافات الأرض وراميات الجو، حيث السلاح والخبرات لشذاذ الطرقات وعصاباتهم، وقصف قرى الشمال العراقي! ولتبريد حماسة الجارة في مطالبتها بأرض نفطية داخل حدودنا. فالرئيس يتذكر جيداً عندما همس بإلغاء معاهدة (آذار 1975)، وهي همسة حق يُراد بها الحق، لما أخذت إيران بموجبها نصف ماء شط العرب، مقابل تجفيف مصادر الدعم للطالباني وقومه آنذاك، أقامت إيران الدنيا ولم تقعدها. فكل شيء يشطب من آثار النظامين السابقين، الشاه وصدام، إلا تلك المعاهدة، فهي لدى عمائم إيران من الأُصول لا الفروع! ومعلوم، تُعد الأُصول في الفقه ثوابتَ لا اجتهاد ولا تقليد فيها!

ما بين فارس والعراق أواصر قديمة، منها الشرّ ومنها الخير، فالمعارك والحصارات لبغداد في العهدين الصفوي والعثماني، أوصلت البغداديين إلى أكل لحوم القطط والكلاب، وقيل توحش الناس حتى أكلوا لحوم الأطفال. أما أيام الخير فبدأت حوالي 1848، عندما تأسست أول قنصلية إيرانية ببغداد، وبعد استقلال العراق من العثمانيين ارتفع التمثيل إلى مفوضية (آب 1929)، يُديرها الوزير المفوض عناية الله سميعي، إلى جانبه نصر الله بهنام مستشاراً، ومحمود بهادوري سكرتيراً، وهاشم آذربيكي ملحقاً مالياً (الدليل العراقي 1936). ويظهر عناية الله وموظفوه في الصورة على درجة من الأناقة، لا تميزهم عن موظفي المفوضية السويدية، أو غيرها من المفوضيات الأوروبية الأُخر، ملتزمين في الأعراف الدبلوماسية، لعكس صورة حضارية عن بلادهم، ليس من مهامهم تشكيل أحزاب، وتنظيمات تجمع بين العمائم الفقهية والخوذ الحربية!

وآنذاك، أي العام 1934، لم يُحتج على فتح قنصليات إيرانية في معظم ألوية العراق، فكان لإيران القنصليات الآتية: قنصلية بغداد، إضافة إلى المفوضية، وقنصلية البصرة، والعمارة، وكربلاء، وخانقين، وأربيل، والسليمانية، والموصل. يديرها جميعاً قناصل يخدمون بلادهم ورعيتها، ومدارسها بالعراق، وقوافل زائري العتبات المقدسة، وجثامين الموتى للدفن في مقبرة السلام بالنجف! أما ما يُحتج به اليوم على فتح قنصلية إيرانية، أو زيارة السفير كاظمي قمي لمنطقة ما، فليس ضد قومية الدولة الرسمية، ولا مذهبها الرسمي، إنما ضد سلوك الدبلوماسية الإيرانية، التي يجمع تمثليها الثورة والدولة معاً! وفي الدبلوماسية علاقات الدول لا الثورات، والحكومات لا الأحزاب!

أقول: من حق الآخرين التخوف من بلاد الثورة، لا بلاد الدولة، عندما يُنظر في ديباجة دستورها، تحت عنوان «الجيش العقائدي» العبارة الآتية: «لا تلتزم هذه القوات المسلحة بمسؤولية الحماية وحراسة الحدود فحسب، بل تحمل أعباء رسالتها الإلهية، وهي: الجهاد في سبيل الله والنضال من أجل نشر أحكام الشريعة الإلهية في العالم»(دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية)! أليس هذا دعوة للفتوح، التي أوقفها الخليفة عمر بن عبد العزيز (ت 101هـ)، مثلما يعود له الفضل في إلغاء سب الإمام علي بن أبي طالب (اغتيل 40هـ) من على المنابر، والشيعة عموماً يحفظون لهذا الخليفة كل التقدير.

مع كل ما تقدم، يبقى امتداد حدود بطول 1200 كيلومتر يبرر استقبال الشيخ رفسنجاني، وإذا تأكدت معلومة، رئيس جريد «الاتحاد» العراقية فرهاد راوندوزي، في مقاله نصف الشهري، من أن لرفسنجاني فضل التعجيل بوقف الحرب، وهو الذي استل الموافقة من روح الله الخميني (ت 1989). وما كانت مقاطعة الحزب الإسلامي العراقي صحيحة، فرئيس الحزب، تصرف كحزب لا كدولة، وهو نائب رئيسها! فتحت عِمامة هاشمي رفسنجاني أكثر من حل لمعضلات إيرانية داخل العراق! كذلك إذا علمنا أن الحزب الإسلامي هو فرقة من إخوان المسلمين، فلو نظر إلى صلات بقية فروع الإخوان بإيران الثورة لا الدولة! ورفسنجاني يجمع الأمرين!

[email protected]