مأزق أفغانستان في انفتاح أميركا على إيران

TT

إطار الانفتاح الأميركي على إيران سيقوم على الأسس التالية: لا وسطاء رغم تقدم الكثير من الدول للقيام بهذا الدور. السماح للدبلوماسيين الأميركيين بالحديث مع نظرائهم الإيرانيين في أي مؤتمر دولي. إذا ما بدأت المفاوضات الأميركية ـ الإيرانية فإنها لن تكون مفتوحة إلى ما لا نهاية. سيتم اتخاذ إجراءات مالية ضد إيران قريبا. إذا ما بدأت المفاوضات مع إيران قبل الانتخابات الرئاسية فيها فان الولايات المتحدة لن تقدم ما يسمى بـ«الجزرة»، بحيث يستغل العرض المتشددون الإيرانيون لتحسين فرص فوز مرشحهم. لن تقدم الولايات المتحدة أي اعتذار على «خطاياها» في الماضي. لن يكون من ميل لصفقة دولية. سيبقى التركيز على المسألة النووية. العمل مع روسيا حول إيران قد يأتي لاحقا.

انطلاقا من هذا الإطار سوف تتواصل المبادرات الأميركية، والهدف هو أفغانستان حسب أولويات السياسة الخارجية الأميركية، لهذا قد تتضمن بعض المبادرات أخطاء، ويمكن أو حتما ستتعرض لعقبات. وفي كل الحالات ستعمل طهران على استغلال الوضع حتى استنزافه، فهي تتطلع إلى تثبيت نفوذها في منطقة الشرق الأوسط حتى دول شمال إفريقيا، وللوصول إلى ذلك لن تعمد إلى لعبة «الشطرنج»، بل إلى سياسة سوق البازار.

من جهتها لا بد أن واشنطن ستحاول «مد الحبل» حتى انتهاء أزمتها المالية والاقتصادية، لأن قراءة متأنية لرسالة الرئيس باراك أوباما بمناسبة عيد النوروز (رأس السنة عند الإيرانيين والاذريين والأكراد والطاجيك) تبين عدة أمور، منها أن العملية الدبلوماسية لن تكون مشروطة بالتهديد، أي أنه يعرض «فترة» تهدئة، بمعنى أنه إذا فشل الحل الدبلوماسي يصبح التهديد العسكري مبررا. في الرسالة دعوة إلى «حوار صادق»، أي كلام صريح وواضح من دون مواربة، ويشير إلى «الاحترام المتبادل»، أي تجنب سياسة سوق البازار.

جاءت رسالة أوباما بعد أسبوع من تجديد الولايات المتحدة المقاطعة على إيران، وكان رد المرشد الأعلى للثورة الإسلامية علي خامنئي: «أين التغيير في السياسة الأميركية؟ هل رفعتم المقاطعة؟ هل توقفتم عن دعم النظام الصهيوني؟». طبعا لم يقرأ خامنئي العبارة التي وردت في رسالة أوباما حول المستقبل: «حيث أنتم وكل جيرانكم والعالم الأوسع يمكن أن تعيشوا بسلام»، إن (كل جيرانكم) هنا تشمل إسرائيل.

أما عن المقاطعة فإن خامنئي يلوح بها رغم أنها قوّت إيران التي توقع عقودا مغرية مع كل من الصين وروسيا حول الغاز والنفط.

على كل، أوباما أراد تغيير خطاب السياسة الخارجية الأميركية، لكنه لا يزال يريد من إيران: التخلي عن تخصيب اليورانيوم، التوقف عن تسليح «حزب الله» في لبنان و«حماس» في غزة، المساعدة في تحقيق الاستقرار في العراق وأفغانستان، والتوقف عن تهديد إسرائيل.

إن وضع إيران الاقتصادي منهار، لكن انكبابها على برنامجها النووي يمنحها قوة. إن امتلاكها برنامجا نوويا أهم من امتلاكها السلاح النووي، وهي ترغب في عراق حيادي، بمعنى أن يضمن النفوذ الإيراني حياده، وتعتبر أن طلب أميركا عدم التدخل في الشؤون الداخلية العراقية بمثابة تهديد لأمن إيران القومي. أما دعمها لـ«حزب الله» فإنه ضروري في نظرها كتحدٍّ مباشر لإسرائيل، ويعني دعمها لـ«حماس» الفريق السني بأن إيران تتكلم باسم كل المسلمين.

كل هذه الأمور تدخل في الاستراتيجية الإيرانية التي تعتقد بأنها ستحققها مع الزمن، وتعمل إيران للاستفادة من كل حاجة أميركا لها، للوصول إلى أهدافها.

أبرز هذه الأهداف أن تكون صاحبة النفوذ الأقوى في الشرق الأوسط والخليج العربي. على النار الآن: أفغانستان.

في رسالته يقول أوباما: «يحق لإيران أن تحتل مكانتها بين الدول، لكن هذه المكانة لا يمكن التوصل إليها عبر الإرهاب والسلاح، ثم إنها لا تقاس بقدرة إيران على التدمير».

لكن، هل إيران ستصغي؟ هناك مشكلات في لبنان، في المغرب، في اليمن، في البحرين، وفي السعودية. ثم إن إيران ليست مرتاحة لاستراتيجية الجنرال دايفيد بترايوس في أفغانستان التي تقترح التفاوض مع قسم من «طالبان».

أميركا في وقت واحد تقترح التفاوض مع إيران ومع «طالبان»، وإيران تعتبر «طالبان» من ألد أعدائها، كما كان صدام حسين، واحتمال أن توافق أميركا على حكومة في أفغانستان مرتبطة بـ«طالبان» يمثل خطرا على إيران.

عندما وجّه أوباما رسالته كان وزير الخارجية الإيراني منوشهر متكي في مدينة مزار الشريف في أفغانستان يحتفل بـ«النوروز» مع أبنائها الطاجيك. من وجهة نظر إيران، ومع المحاولات الأميركية لتهدئة الوضع في أفغانستان، فإن الوقت مناسب لإبلاغ الأميركيين بأن لإيران نفوذا في الشرق الأوسط، كذلك في وسط وجنوب آسيا.

إن لإيران نفوذا لدى الطاجيك، أكبر الأقليات في أفغانستان، نظرا لوحدة اللغة، كما أن لديها نفوذا لدى «الهازارا»، فهم شيعة. ولها اتصالات قوية مع «الأوزبيك»، ثاني أكبر أقلية في أفغانستان. هذه الإثنيات الثلاث تجمعها الكراهية لـ«طالبان» الذين قضوا على «التحالف الشمالي» في التسعينات. ستحاول إيران إحياء «التحالف الشمالي» لمواجهة بروز «طالبان»، وبهذا تنسف التحركات التي تقوم بها واشنطن مع الرياض للانفتاح على «المعتدلين» من «طالبان»، وبالتالي تواصل معارك النفوذ التي تخوضها مع السعودية. وكما اعتمدت على حلفائها من الشيعة العرب وبعض القوى الراديكالية الأخرى في الشرق الأوسط لتبسط نفوذها، ستعمد على إحياء ارتباطاتها مع الإثنيات المختلفة في أفغانستان، كي تصبح «ضرورة» لأميركا في أي استراتيجية جديدة. إن إيران تريد من الولايات المتحدة أن تعترف بأن الجمهورية الإسلامية هي اللاعب الأكبر في المنطقة. هي لا ترى نفوذها يقتصر على منطقة الخليج وشبه الجزيرة العربية ودول المشرق وشمال إفريقيا، بل يصل إلى آسيا الوسطى والقوقاز وجنوب آسيا. لكن قدرتها على فرض نفوذ كبير في آسيا الوسطى وفي القوقاز محدود مقارنة بقوة مناوئيها الإقليميين: تركيا وروسيا. لذلك تبقى منطقة جنوب آسيا ضرورية ومؤهلة للنفوذ الإيراني. قد يعمل عاملا العرق والمذهب كعقبات في وجه طموحاتها في الشرق الأوسط، فإيران فارسية شيعية، والأغلبية في الشرق الأوسط من العرب والمسلمين السّنة، إلا أن هذين العاملين يعملان لصالحها في أفغانستان. إن إيران تشترك بحدود مع أفغانستان تصل حتى 582 ميلا، وأكثر من ثلاثين بالمائة من الأفغان هم من الطاجيك، عرق فارسي، ورغم أن الباشتون يشكلون الأغلبية في أفغانستان فإنهم يتكلمون «الداري»، اللغة المنشقة من الفارسية، ثم هناك 16 بالمائة شيعة في أفغانستان.

في نهاية هذا الشهر سيعقد المؤتمر الدولي حول أفغانستان المدعوة إليه إيران. هل سيأتي منوشهر متكي الذي رد على رسالة أوباما قبل خامنئي طالبا منه أن يحدد تغييرا في سياسته الخارجية عن تلك التي اعتمدها الرئيس السابق جورج دبليو بوش؟

إن واشنطن تعاني من عودة «طالبان» وجهادييها بقوة، هي تتخوف من انتشارهم في أفغانستان وباكستان. عليها الآن أن توازن بين العرض الذي قدمته لإيران وبين ما تطلبه من السعودية للتوصل إلى اتفاق مع الجانب المعتدل من «طالبان». وإحياء التحالف المواجه لـ«طالبان» في أفغانستان سيسبب لواشنطن مشكلات كثيرة في تطبيق خطة كالتي طبقتها في العراق.

إيران ليست الدولة الوحيدة الراغبة في إحياء «التحالف الشمالي»، فالروس يريدون ضبط «طالبان»، وقد يهمهم نسف الاستراتيجية الأميركية الجديدة بإحياء قسم من «طالبان». قد تضطر إيران للعمل مع روسيا في إيجاد تحالف أفغاني ضد «طالبان»، مع علمها بأن روسيا لن تسمح لها بتمديد نفوذها في آسيا الوسطى، لأن تلك المنطقة تعتبرها روسيا «مربط خيلها». ثم هناك الهند التي انتقدت علنا الجهود الأميركية لاحتواء «المعتدلين من طالبان».

عندما غزت الولايات المتحدة العراق حققت أكبر انتصار لإيران بإزاحة عدوها اللدود عن الحكم، وإضعاف العراق، وعندما أطاحت بـ«طالبان» كانت إيران تنتظر مكافأة على خدماتها. المشكلة الآن أن أميركا غارقة في مشكلاتها الداخلية الاقتصادية والمالية، ودخلنا في الربيع، موعد هجمات «طالبان» في أفغانستان، وقد يدفع ضيق الوقت بأميركا للوقوع في شباك البازار الإيراني، فيدفع هذا بإسرائيل للقيام بضربتها العسكرية ضد منشآت إيران النووية.

الحوار مع إيران مطلوب، لكن حوار «تحريك العواطف» غير مُجدٍ، بل خطير جدا.