غل في بغداد لأكثر من سبب

TT

قد يتبادر إلى الذهن وللوهلة الأولى أن الطابع الغالب على زيارة الرئيس التركي عبد الله غل إلى بغداد هو اقتصادي تجاري بحت، خصوصا أن الرئيس التركي الذي اصطحب معه وفدا اقتصاديا حاشدا قال إن تركيا تسعى إلى رفع حجم التبادل التجاري مع العراق من 5 مليارات دولار إلى عشرين خلال السنوات القريبة المقبلة. لكن المؤكد هو أن أنقرة التي قررت ومن خلال تحركها هذا ليس فقط أن تضع حدا لتجاهل رؤساء جمهورياتها لبغداد استمر لأكثر من 30 عاما بل أن تحمل وتناقش الكثير من الملفات الأمنية والسياسية والإستراتيجية التي تقلقها ومنذ مدة طويلة في علاقاتها مع الجار العراقي.

غل استمع أولا من القيادات العراقية على مختلف توجهاتها وميولها السياسية إلى تحليلات مطولة حول مسار العملية السياسية في العراق ومستقبلها خصوصا على ضوء خطة الانسحاب الأميركي العسكري واحتمالات طلب الدعم التركي ضمن هذا الإطار لتعطي أنقرة قرارها الذي يبدو هنا أن الرئيس الأميركي الجديد أوباما سيأتي لمناقشته وحسمه شخصيا حتى لا تتكرر مفاجأة الأول من آذار عام 2003 وتتفجر العلاقات مجددا.

المؤكد أيضا أن «تشرشل الشرق الأوسط» جلال الطالباني كما وصفه الرئيس التركي الأسبق تورغوت أوزال والذي لعب دورا كبيرا في إقناع غل بأن الوقت قد حان لإنجاز هذه الزيارة سيسهل له الطريق لمساعدة أنقرة على تحديد خياراتها ومواقفها أمام كومة الأحداث الإقليمية المتلاحقة والتخلص من رواسب الماضي السلبي في علاقاتها مع العراق أولا وفتح صفحة جديدة في علاقاتها مع أكراد الشمال ثانيا.

الرئيس التركي في بغداد ربما لأن الكثير من الأتراك بات مقتنعا بضرورة طرح أسلوب آخر في المواجهة مع «حزب العمال الكردستاني» بعدما لم تقد خيارات الصعود بالقوة إلى جبال شمال العراق إلى نتائج مرضية حاسمة. وربما قيادات العدالة والتنمية ستحاول هذه المرة اعتماد أسلوب إنزال المقاتلين بإرادتهم وخيارهم هم مسهلة الطريق لهم بقرارات سياسية اجتماعية ثقافية منفتحة بدأتها مؤخرا مع إطلاق قناة تلفزيونية كردية رافقها جملة من الوعود يبدأ تنفيذها ما أن تخرج تركيا من قطوع الانتخابات الذي تعيشه منذ أسابيع. طالباني الذي سارع غل لمد اليد له عندما تعثر وهو في طريقه إلى منصة الاحتفال قال إنها ليست المرة الأولى التي تمد فيها يدها إلى العراقيين وإلى أكراد شمال العراق وهو من هنا يصر على رد الجميل التركي والتمسك بمبدأ حسن الجوار من خلال خطة ثلاثية طرحها على الرئيس غل، ويبدو أنه لقي الدعم حيالها: إقناع أنقرة بضرورة الفصل بين ما يقوله ويفعله أكراد شمال العراق وبين خيار السلاح الذي يتمسك به حزب العمال، تبديل أنقرة لسياستها ونظرتها إلى مسعود البرزاني الذي رجح أن يكون بعيدا خلال هذه الزيارة وإطلاق حوار سياسي معه بات ضروريا أمام المتلاحقات على الأرض وأخيرا الوقوف إلى جانبه هو من أجل إنجاح مؤتمر أربيل الكردي في مطلع نيسان المقبل عبر تقديم ما يعزز مواقفه وطروحاته أمام القيادات والمسؤولين الأكراد على مختلف مشاربهم في هذا المؤتمر. طالباني قال بإيجاز إنه يسعى لإلغاء لغة السلاح وتقديم الحوار السياسي في حل المشاكل لكنه يريد من أنقرة أن تضع بين يديه ما يسهل له النجاح في مهمته هذه. ويبدو أن الرئيس العراقي الذي بدل رأيه عشية وصول غل من الاتفاقيات الأمنية والإستراتيجية الموقعة بين تركيا والعراق والتي طالما انتقدها ورفضها حصل على الكثير مما أراد هذه المرة، فغل ذكر أن بلاده لا مشكلة لها مع أكراد «إقليم كردستان العراق» وهي العبارة التي تجنبت أنقرة استخدامها منذ سنوات، وقال إن أنقرة تدعم مؤتمر أربيل المرتقب وتراهن على ضرورة أن يفعل كل منا ما بوسعه، مذكرا أن زيارته هذه بحد ذاتها تحمل أكثر من رسالة وبعد ينبغي أن لا يفرط بها.

طبعا لا يجوز الرهان هنا على تفاؤل مطلق، فأنقرة واربيل يعرفان تماما أنه عليهما انتظار نتائج الانتخابات البلدية التركية وما سيحققه «حزب المجتمع الديمقراطي» على الأرض في مناطق جنوب شرق تركيا والكثير من مدنها المعروفة بغالبيتها الكردية ليحدد على ضوئها المواقف والبدائل السياسية في المسألة الكردية، التي طالما أقلقت الأتراك لسنوات طويلة خصوصا أن أوجلان سبق ورفض محاولات الطالباني ودعواته أكثر من مرة لإلقاء السلاح، رابطا بين تخلي حزب العمال عن سلاحه وبين تسليم سلاح البشمركه الكردية في شمال العراق إلى القوات الأميركية. كما أنهما يعرفان تماما أن زيارات تركية إلى أربيل والسليمانية بين العوائق الواجب تجاوزها بأسرع ما يمكن، وأن موضوع كركوك ومستقبلها السياسي والأمني نقطة تباعد أساسي ينبغي حسمها، وربما قد تكون هنا تصريحات القيادات الكردية الأخيرة حول خيار التمسك بالوحدة العراقية مقدمة مشجعة لحلها.