حق التمني

TT

أيام كنت يافعاً، كانت السياسة في لبنان أكثر وضوحاً، وشروط العمل فيها أكثر تشدداً. كانت مقاعد مجلس النواب محتكرة تقريباً لبعض الوجهاء، لكن أكثريتهم كانوا ذوي سيرة حسنة، وذوي معدلات أخلاقية عالية، أو متوسطة في أبسط الأحوال. وقد جاء أكثر هؤلاء إلى العمل السياسي من السياسة، لا من الحرب، ولا من القتل. ولذلك كانت الناس تواليهم بمحبة وصفاء، وتمنحهم ولاءها وثقتها طوال العمر، وتفوضهم اتخاذ القرارات الوطنية والسياسات العليا، وتقبل منهم بالقليل الذي يقدمون.

كانت الحياة بسيطة، والدنيا بسيطة، وكان أكثرية النواب رجالاً بسطاء، لا يملكون ثمن السيارات الفارهة التي يتنقلون بها. وكان إلى جانب كل نائب سائقه، وكان (ريمون اده من دون سائق)، ولا مرافقين، ولا حراس، ولا مواكبة، ولا «طوكي ووكي»، ولا سيارات في المقدمة وسيارات في المؤخرة، ولا سيارات ذات زجاج معتم، ولا زمامير زرقاء، ولا رجال مدججين بأسلحة ثقيلة وعارين من اللياقة والكياسة والأخلاق.

تغيرت الأمور بنسب لا تطاق. عشرات الرجال يتدفقون لخوض المعارك الانتخابية من دون أي مؤهل سياسي أو وطني. أفواج وأمواج من المجهولين، أو فوج من المعلومين ذوي السمعة السيئة. أفظاظ وسفهاء ومجردون من الحدود الدنيا من مكارم الأخلاق. وأناس من دون أي استحقاق، ومن دون أي أثر، ومن دون أي صفة، أو حسنة، أو ميزة، أو كفاءة.

هذا الطوفان من العابثين و«اللاشيئيين» يسخف الحياة السياسية والعمل السياسي، ويدفع «بعض الأوادم» والمستحقين إلى البقاء بعيداً عن العمل السياسي، ويحول الساحة كلها إلى ما يشبه الساحة الفنية، حيث الأصوات كثيرة، والحناجر قليلة، وأوتار النغم معدومة أو متشابكة بالفساتين والتنانير. عندما كنت يافعاً كنت أصرخ طالباً التغيير. وكنت أدعو إلى التمرد على الوجوه الهادئة التي ألفناها، أملاً في ظهور وجوه جديدة تغير معالم الوضع السياسي برمته. وكم أشعر بالندم والأسى والحزن اليوم، ليس لأن الإنسان يميل بطبعه وطبيعته إلى افتقاد الماضي، بل لأن الحاضر على قسط كبير من الوقاحة والضحالة ومساوئ الأخلاق. وأدرك طبعاً أن الماضي قد انطوى، وأن اليفاع صار كهولة، لكنني سوف أظل أحلم وأتمنى وآمل. اليأس الفردي ليس مهماً، أما اليأس الوطني، فجريمة.