أمريكا أرخت قبضتها.. فماذا أنتم فاعلون؟

TT

بوضوح من يعرف أن بلاده تعيش أكبر أزماتها الاقتصادية منذ الحرب العالمية الأولى، وبجرأة من جاء حاملا شعار التغيير من داخل واشنطن نفسها، ثم بواقعية من أدرك أن تطبيق الشعارات الكبرى أصعب بكثير من إلقاء الخطب حولها، حاول الرئيس أوباما أن يقدم نموذجا لأمريكا المستعدة لمحاورة الجميع والمعتنقة لخطاب أكثر تواضعا واقل عدوانية، كان قد أعلن في خطاب التدشين أن أمريكا ستمد يدها لخصومها إن هم أرخوا قبضاتهم، وهو يحاول أن يقول اليوم إن أمريكا وقبل أن تمد يدها قد أرخت قبضتها.

في أمريكا اليوم يتنافس عقلان، عقل براغماتي يحسب الحقائق على الأرض بطريقة منطقية ويسعى لأعلى الأرباح بأقل الكلف ويتجنب المقامرات غير المحسوبة، وعقل آيديولوجي توارى إلى الخلف مع هزيمة اليمين، لكنه يشحذ سيفه وخطابه بمحاولة مصادرة القيم الأخلاقية ومفاهيم الصواب والخطأ واحتكار الوطنية واستثمار اي فشل يصيب العقل البراغماتي لإعادة السيطرة مجددا.

وفي داخل إدارة أوباما البراغماتية هناك تيارات متصارعة ربما ستطفو صراعاتها إلى السطح في مقبل الأيام. أوباما وإن كان براغماتيا إلا انه من خلفية لا تحيد المبدأ الأخلاقي بشكل كامل، هو أكاديمي وليبرالي ومن الأقلية السوداء التي مهما حاول، محقا، تجنب عزل نفسه داخل شرنقتها، إلا أنه لا بد وأنه نشأ متأثرا ببعض تراثها الفكري والأخلاقي.

من شاهد حوار أوباما على قناة العربية والموجه إلى عموم العرب والمسلمين ثم خطابه الموجه إلى الأمة الإيرانية و(قادتها)، يدرك أن هناك محركا آخر إضافة إلى براغماتية الإدارة، وإضافة إلى موهبة الرجل في التأثير الإعلامي، انه المخزون الأخلاقي لأوباما الذي وان حقق حلم ان يكون الرئيس الأسود الأول لأمريكا فإن لديه حلم أن يكون رئيسا مختلفا في ظروف غير مواتية ربما.

لقد تجنب الرجل استدعاء خطاب القوة العظمى ما أمكنه، بل حتى إيحاءات القوة التي تضمنتها لغته بدت وكأنها إرضاء لمستشاريه الأكثر براغماتية والأقل انهماكا برغبة تحسين صورة أمريكا. ما لا يفهمه البعض أن لدى أوباما وقتا محدودا وأمامه عقبات هائلة ليثبت أن منهجه صحيح قبل أن ينقض الآيديولوجيون متحالفين مع البراغماتيين اللا أخلاقيين لإنتاج موقف ضاغط عليه كي يعاود الاعتماد على الأدوات القديمة.

إن الجميع في منطقتنا معني بصراع أوباما ومعني بمساعدته، لأن منطقتنا هي الفضاء الذي يمكن لأمريكا أن تقدم فيه لنفسها صورة جديدة أو أن تعيد تأكيد صورتها القديمة، أي أن تتصرف كقوة عظمى مسؤولة أو كقوة عظمى فقط. المشكلة في وجهها الآخر هي أن منطقتنا ما زالت خاضعة لهيمنة العقل الآيديولوجي الذي يعتنق مسلمات لا يستطيع أن يرى العالم بدونها.

وفي داخل منظومة الأفكار التي يعتنقها هذا العقل لا تبدو أمريكا قابلة للتغيير، فقد مضى عقلنا الآيديولوجي بعيدا في شيطنتها وجعلها شرا مطلقا حتى لم يعد باستطاعته الحياة بدونها. لقد سمعنا طويلا في العقدين الأخيرين عن تنظيرات حول حاجة أمريكا إلى العدو، ولكننا أغمضنا أعيننا عن حقيقة أننا نحن لا نستطيع أن نعيش بدون وجود الشيطان الذي لا يمكن أن يكون غير أمريكا وحتى إشعار آخر. مقاربتنا لأمريكا آيديولوجية بحتة، خالية من المنطق والحسابات البراغماتية، وإذا ظلت كذلك فإنها ستنتهي إلى إضاعة فرصة أن نساعد أمريكا على تغيير نفسها، وأن نتغير نحن تبعا لذلك.

أمام أهل المنطقة طريقان للتعاطي مع أمريكا التي أرخت قبضتها في فسحة الوقت الضيقة أمام الجميع، الطريق الأول هو التخلي عن فهم التغيير الأمريكي على انه تغيير سطحي معني فقط بالأقوال لا الأفعال، فحتى مع حجية هذا الطرح إلا انه يتغافل عن حقيقة أن أمريكا ما زالت القوة العظمى الوحيدة وان التغيير في خطابها هو بالضرورة تغيير مهم بل انه يطال الفعل من حيث إن الخطاب هو فعل أيضا، وبالتالي نرخي قبضاتنا لكي نساعد من يريد إنتاج تغيير حقيقي في واشنطن في معركته مع خصوم أشداء لا يرحمون، وبذلك نبعد أمريكا عن أن تخضع لهيمنة عقل آيديولوجي يبدأ سرديته بشيطنتنا أو عقل لا أخلاقي يمارس براغماتيته بدمائنا.

أما الطريق الثاني فهو مواصلة حالة الإنكار التي نعيشها بحجة أن أمريكا لا تتغير، أو أنها بدأت تضعف وتنهار (كما كان يحلو للقوميين العرب أن يرددوا منذ 25 عاما مضت)، أن نتناسى أن النمر الجريح أكثر شراسة، وان كبرى الحروب العالمية بدأت عندما أصاب الوهن قوة عظمى ما، وان نظل باستهتار مفرط نجتر تصورا مفاده أن أمريكا لم تعد تمتلك خيارات كثيرة غير أن ترضخ لمطالبنا.

هذا الموقف سيساعد الأمريكيين الذين يريدون إجهاض فرصة التغيير، سيكتل الآيديولوجيين مع البراغماتيين اللا أخلاقيين لإعادة إنتاج خطاب جوهره «أن لا فائدة مع هؤلاء». انظروا إلى منطقتنا جيدا، إلى الاختلالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، إلى الانقسام الطائفي المخيف الذي بات يتسرب إلى كل ثنايا حياتنا، إلى الإصرار على البقاء واقفين عند الجانب الآخر من التاريخ؛ كما قال أوباما نفسه، ألا تقدم أوضاع المنطقة المتأرجحة بين سلام بات يشبه المستحيل وحرب تطل برأسها إن التفتنا وتمنح فرصة لأي قوة عظمى غير أخلاقية كي تعيد فرض وصايتها، عبر ضرب رؤوسنا ببعضها.

بعد كل شيء، ومع أزمة اقتصادية وركود تضخمي، قد يجد البعض في أمريكا أن إشعال حرب في الجغرافيا البعيدة الثرية بالمال والكراهية سيساعد في تحريك الاقتصاد الأمريكي، كما ساعدت الحرب العالمية الأولى في تحويله إلى اكبر اقتصاد، مثل هذا الإغراء بحاجة إلى رئيس أخلاقي كي يقاومه، لكنه رئيس لا يستطيع مقاومة خصومه الداخليين بدون معاونة خصومه الخارجيين، لقد أرخى الرجل قبضته، فماذا انتم فاعلون؟