في جناح همنغواي.. كلما بعثت إليها

TT

هجرتني صبية الحب الأول وتركت للصبا أن يتمادى في لوعته. والفتنة في يفاعنا كانت خصبة بالشعر والحزن وآهات فيروز. وكانت فتنة لا تزول وحزنا يبقى. وفي الصبا كل ما ليس حبيبتك يذكرك بحبك، النسمة واللحن والشعور المتفجر، بأن الحب الأول قد انتهى كنفحة عاطرة، وسوف يبقى مجرد ترداد لكذبة أبي تمام الجميلة والممتلئة عزاء في الصبا المفقود: نقل فؤادك حيث شئت من الهوى.

كنت في الثامنة عشرة. وفي مثل عمري، في مثل زمني، كان الشاب يسمي تخيلاته أحلاما. ومعظم تلك التخيلات كنت أعود بها من السينما. وكلما خرجت من فيلم وضع قصته أرنست همنغواي كنت أذهب لشراء الرواية وأروح أتخيل كيف سأصبح في وقت لا وقت، همنغواي زمني وعصري. وإذ بذلت محاولتي الأخيرة لأسترد الحب الأول، كتبت لها رسالة مطولة أشرح فيها كيف سأصبح همنغواي، وأنني وضعت لذلك خطة محكمة، وأنني أكاد أنتهي من روايتي الأولى وعنوانها «الحب والجزائر». وقد استعدت ووضعت بعض أشخاصها في رواية «بائع الفستق» بعد ذلك بسنين. أما الرواية نفسها فاستحقت نقدا من الشاعر أنسي الحاج، لكنها ما رأت نور النشر.

كلفت صديقا لي أن ينقل الرسالة. ولشدة فطنتي غاب عني أنه يحبها ولا يريدني. أو على قول مولانا المتنبي:

كلما عاد من بعثت إليها

غار مني وخان في ما يقول

بدل أن يسلم الصديق الرسالة موصيا بي لدى بثينة وليلى وهند العامرية، فتح الرسالة وقرأها لها مقهقها، مؤكدا أن صاحب الرسالة بكر جدا على الجنون. ففي إمكانه ـ صاحب الرسالة ـ لو كان عاقلا، أن يجن بقصيدتين من طراز قفا نبكي ـ هو وناقته ـ أما أن يجن دفعة واحدة على همنغواي و«الشمس تشرق أيضا» و«العجوز والبحر» و«لمن تقرع الأجراس»، فإنما هذه حالة لا علاج لها.

لم يحمل إليّ جوابها. وعلمت فيما بعد أن خطبة سعيدة قد عقدت، بين شاب لا أحلام له سوى الترقية في متجر للحديد وآنسة كان يهواها مخبول ما أن كتب بضعة أسطر إلى جانب بعضها البعض حتى ظن أنه صار أرنست همنغواي.

إلى اللقاء