جذابة هذه المدينة الكل يستوطنها حتى الضنك!

TT

تعرضت في طفولتي، في مدينة جدة، لحمى الضنك في زمن كان فيه العطارون يسيطرون بوصفاتهم وعقاقيرهم على قناعات الناس، فسكان المدينة يؤثرون اللجوء إليهم بدلا من طبيب القنصلية الهندية الذي اعتاد أن يجوب بجواده الأبيض أحياء المدينة، وحتى حينما أنشئ المستشفى العام ظل الناس يحافظون على علاقتهم بعقاقير العطارين، وهم يرددون: «مين فات قديمه تاه»، وهم ـ بطبيعة الحال ـ لا يرغبون بـ«التوهان»، ولذا حينما أصبت بحمى الضنك، لم تمهلني الحمى، وداهمتني، وأنا لم أزل في «الكتاب» أغسل لوحي الخشبي بالمضير لكي يخط عليه معلم الكتاب درسي الجديد، وسقطت بجوار الزير الفخاري، وأصبحت أسمع أصوات الطلبة والطالبات، وكأنها تأتي من عالم بعيد، تردد خلف شيخنا الوقور أهزوجة «جداوية» قديمة، لعلها كانت تهدف إلى تعليم الصغار أيام الأسبوع، وتقول كلماتها:«السبت سبوت، والأحد نبوت، والاثنين فتح البابين، والثلوث بشارة، والربوع منارة، والخميس فرحة العريس، والجمعة أمنا تجمعنا كلنا».

وحينما عثر علي ـ بعد وقت ـ محموما بجوار الزير حملوني إلى المنزل، تسبقني وصفات العطار، وأنا في حالة هذيان، أروي بطريقة «دون كيشوتية» حكايات خيالية، وأنسج أخبارا وهمية، والحرارة التي تصدر من جبهتي تكفي لإنضاج رغيف خبز بلدي. وبقيت على ذلك الحال أياما، عانيت فيها من الألم الشديد ما يجعلني استعيده في كل مرة أسمع، أو أقرأ خبرا عن حمى الضنك، وأحسست ذلك بالأمس، وأنا أطالع خبرا منسوبا لأمين مدينة جدة يشير فيه إلى إصابة 20 شخصا في مدينة جدة بحمى الضنك خلال أسبوع، وأن عدد الإصابات بهذه الحمى بلغ في الشهر الماضي 84 حالة، وهذا يعني أن جدة رغم مرور عقود طويلة من السنين لم تزل في قبضة تلك الحمى الأليمة.

يقال إن عدة جهات تعمل في المدينة على مكافحة حمى الضنك، وكل جهة من هذه الجهات لا تعرف على وجه الدقة ماذا تفعل الأخرى، وهذا الاختلاف جاء ـ بكل تأكيد ـ رحمة لـ«البعوضة» المسببة للمرض، فصالت، وجالت، ومدت لنا لسانها ساخرة، وهي تطالب بتمديد إقامتها في هذه المدينة، مواصلة لعبة «القط والفار» مع فرق الرش، وكتائب البلدية، والصحة، وكل من تسول له نفسه أن ينسى عشرتها، أو أن يقض سكون مضجعها.

جذابة هذه المدينة، الكل يسعى لأن يستوطن بها، حتى حمى الضنك!

[email protected]