في جناح همنغواي.. حمام كل يوم؟

TT

كانت باريس في الستينات قد تجاوزت كثيراً باريس همنغواي في العشرينات، وباريس جورج أورويل الكئيبة في الثلاثينات. عاش الأول في غرفة بلا تدفئة في حي الطلاب، قريباً من السوربون، وخرج بكتاب عنوانه «مهرجان متحرك» أو متنقل، خلاصته أن من يعيش في باريس دورة من الوقت، يحملها معه إلى حيثما تنقل في الأرض. أما جورج أورويل، سيد الميلانخوليا البشرية، فقد عاش في غرفة بلا نور في أحياء العمال والفقراء، وترك لنا أثرا أدبيا جميلا بعنوان قاتم: «كئيب ومشرد في باريس».

كان لا يزال في «باريس» شيء من باريس همنغواي ومن كآبة باريس أورويل. أيام الأول كانت بيوت الخلاء تقام في الحدائق إلى جانب البيوت. وفي فندق أورويل كانت بعيدة حتى على الفندق في ازدحام السوق. الفندق الذي نزلت فيه، 50 غاي لوساك، كان فيه حمام للنزلاء في كل دورين. وكان على السادة النزلاء أن يدفعوا فرنكين إضافيين كلما أرادوا حماماً ساخناً. وبعكس جميع السادة النزلاء، كنت أعاني، على ما يبدو، من عادة سيئة هي الاستحمام كل يوم. فكنت كلما طلبت المفتاح من موظفة الباب، المعروف أيضاً بالاستقبال، تقول لي مؤنبة «وأنت، ما لك وللحمام كل يوم؟ هل تعاني من مرض جلدي؟».

كانت تعزية النفس أن جميع الذين جاءوا إلى باريس بدأوا هكذا. في باريس الضفة اليسرى. جميعهم عاشوا، ووضعوا كتبهم في كومة من العوز والألم. ونحن لا نعرف منهم سوى باقة صغيرة من الأسماء التي لمعت فيما بعد، لكن المئات، وربما الآلاف، جاءوا إلى هنا وظلوا دون أسماء ومضوا دون أثر. كثيرون انتحروا. وكثيرون انتهوا في مصحات. وكثيرون أمضوا بقية أعمارهم فوق الأرصفة، لا دفء إلا في الحرارة المتصاعدة من مواسير الغاز تحت الأرض.

هل نحن من يتنازل عن الحلم أو هو الذي يتخلى عنا؟ ومتى؟ متى نبلغ لحظة الإدراك، بأن الحلم الذي يكون أكبر منا يظل حلماً أو يتناثر أضغاث أحلام؟ لماذا قالت العرب «أضغاث أحلام»؟ في مثل هذه الحدة وهذا التأنيب؟ وعلى أي حلم أؤنب؟ هل من الكثير على أهل العشرينات أن يحلموا باستعادة الحب الأول وبأن يصبحوا، ذات يوم، ذات يوم بعيد، المستر همنغواي. ارنست همنغواي؟ لم يكن حالمو الأدب يأتون إلى باريس لكي يصبحوا همنغواي فحسب. كانت الكتابة من باريس، أو عنها، تعني أنك قد تصبح يوماً توفيق الحكيم. أو سهيل إدريس. أو طه حسين. أو أن تنضم أيضاً إلى ذلك العدد الكبير من الأدباء المصريين واللبنانيين الذين جاءوا وتسكعوا وتكاسلوا ولم يصبحوا شيئا.

إلى اللقاء