طيف ماركس.. شبح الشيوعية.. روح فيبر

TT

مع سقوط الاتحاد السوفيتي، ومن قبله النظم الشيوعية في أوروبا الشرقية، وانفتاح الصين على النظام الرأسمالي تدريجيا، ظن الجميع أن الماركسية قد سقطت إلى الأبد، وأن زمن كارل ماركس قد ولى، وأن ما حدث هو نصر تاريخي ونهائي لليبرالية واقتصاد السوق (الرأسمالية)، لدرجة أن كاتبا مثل فرانسيس فوكوياما كتب كتابا أعلن فيه نهاية التاريخ، حتى قبل السقوط الرسمي للاتحاد السوفيتي (نهاية التاريخ والإنسان الأخير، الصادر في عام 1989). ولكن الأزمة المالية العالمية، التي كانت إرهاصاتها مع بدايات عام 2008، مع بداية أزمة الرهن العقاري في الولايات المتحدة الأميركية، حاضنة العولمة وحاضرة الرأسمالية المعاصرة، وما نتج عن ذلك من استشراء مفهوم ومتوقع للأزمة في كل أنحاء العالم في ظل عولمة عمت العالم أجمع، عاد طيف ماركس (1818ـ1883) ليحوم حول العالم، وعادت الماركسية تطوف في الأذهان كتفسير لما يحدث، وعاد «بيان الحزب الشيوعي»، الذي كتبه كارل ماركس وفريدريك إنجلز، ونُشر عام 1848، ليصبح منشورا سياسيا معاصرا، بعد أن اعتبر لمدة طويلة مجرد نص كلاسيكي من نصوص القرن التاسع عشر وصراعاته. «شبح ينتاب أوروبا.. شبح الشيوعية»، يقول ماركس وإنجلز في بداية البيان، «ضد هذا الشبح اتحدت في حلف مقدس قوى أوروبا القديمة كلها: البابا والقيصر، مترنيخ وغيزو، الراديكاليون الفرنسيون والبوليس الألماني..». اليوم، ومع تفاقم الأزمة المالية العالمية، تعود الماركسية لاعبا في الملعب الدولي، ويعود طيف ماركس سابحا في سماء كل العالم، وليس في أوروبا وحدها.

هل كان ماركس محقا في تحليله للرأسمالية، ومن أنها تحمل بذور فنائها في ذاتها، كما قال في «رأس المال»؟ من الناحية النظرية البحتة، يمكن القول إنه كان محقا في ذلك، فالرأسمالية في جوهرها، نظام اقتصادي يقوم على الإنتاج وإعادة الإنتاج من أجل الربح، وتنامي الثروات، فالربح هو محرك اقتصاد السوق، وهو الذي سيؤدي إلى فنائها، فكيف يكون ذلك؟ من أجل زيادة الربح لا بد من تقليل التكاليف، وأهم التكاليف هي الأجور، وهذا هو الدافع للاعتماد على التكنولوجيا في سبيل التخلص من تكاليف الأجور. إحلال التكنولوجيا محل الجهد البشري لا ريب أنه يقلل من التكاليف، ولكن لزيادة الأرباح لا بد من زيادة الاستهلاك، وزيادة الاستهلاك لا بد لها من زيادة في الدخل، وهذا يتناقض مع مبدأ تقليل النفقات أو التكاليف، وهنا يبرز أهم تناقض من تناقضات الرأسمالية، وهو الذي سيؤدي إلى هلاكها في نهاية المطاف، بعد سلسلة من الأزمات الاقتصادية، التي تنتهي بالأزمة الكبرى التي تشكل بوابة الدخول إلى «التاريخ الإنساني»، أو الاشتراكية، ومن بعدها الشيوعية حيث «من كل حسب قدرته، ولكل حسب حاجته»، وحيث تكون «نهاية التاريخ» كما عرفناه، وبداية تاريخ حقيقي للإنسان على هذه الأرض. «نهاية التاريخ» لم تكن شيئا اخترعه فوكوياما أو غيره من المعاصرين، بل كان جزءا لا يتجزأ من فلسفة هيغل، حين تعي الفكرة ذاتها وينتهي التاريخ، ومن فلسفة ماركس، حين يتحقق المجتمع الإنساني في ظل العدالة الشيوعية، ومن فلسفة نيتشه حين يتجسد الإنسان الأعلى، ومن فلسفة أرسطو، حين تتحقق وحدة المواطن الصالح بالإنسان الصالح، وفي فلسفة سقراط وأفلاطون، حين يتحقق مثال السماء على أرض الواقع، بل وكل الفلسفات الدينية حين تتحدث عن اكتمال التاريخ ونهايته، حين تتحد مملكة الله بمملكة الإنسان، وفق تعابير مختلفة، ولكن المعنى واحد، وسواء تحدثنا عن أوغسطين أو عن الفارابي.

ولكن رغم منطقية ماركس النظرية، إلا أنه كان أسير الكتب، التي كان منكبا عليها في مكتبة المتحف البريطاني في لندن. فالرأسمالية نظام عملي، قادر على تحوير نفسه بما يخدم مصالحه في النهاية. خلال الأعوام من 1929 ـ 1933، عانت أميركا من أزمة اقتصادية خانقة، ظن الجميع معها أنها الأزمة الكبرى للنظام الرأسمالي التي تحدث عنها ماركس، وأصبح الحزب الشيوعي الأميركي الأكثر شعبية في الولايات المتحدة، وتحول جوزف ستالين إلى معبود الجماهير في أميركا نفسها. فهناك، أي في الاتحاد السوفيتي الصاعد، كانت الخطط الخمسية للتنمية، التي وفرت العمل للجميع، وكان الدستور السوفيتي الذي ينص على أن حق العمل للجميع. لم تكن لقمة العيش مشكلة في اتحاد السوفيت، ولكنها كانت مشكلة في أميركا. النخبة المترفة في أميركا كانت تتحدث عن حرية الكلمة مقارنة بقمعها في روسيا، ولكن ما نفع الحرية مع الجوع؟، الجائع ليس حرا، وإن كان حرا.. هكذا كان لسان حال العامة في أميركا يقول، وفي تلك الفترة بالذات، ظهر الشعار الأميركي الشهير: «Better red then «dead.

وجاء فرانكلين روزفلت، مسلحا بأفكار جون ماينرد كيتز، وقال إن رأسمالية آدم سميث وديفيد ريكاردو، والكلاسيكيين من منظري رأسمالية السوق لا يفقهون العمل بقدر ما يفقهون النظر، فتدخلت الدولة، رغم اعتراض رأسماليين مثل أطفال لا يعرفون الجمرة من التمرة، وأنقذ الرأسمالية من نفسها، فكان ازدهار أميركي لم يسبق له مثيل. ثم جاء السيد رونالد ريغان، واعتقد أنه آن الأوان للعودة إلى رأسمالية كلاسيكية، تدخل الدولة فيها أقل ما يجب أن يكون، ونجح الأمر نسبيا، وظن الجميع أنه نصر نهائي، خاصة بعد أن سقطت «إمبراطورية الشر»، أي الاتحاد السوفيتي، وتعاقبت دول العالم على تصفية قطاعها العام، حتى في المجالات الإنسانية البسيطة، فما ينجح في أميركا، لا بد أن يكون ناجحا في كل العالم. المنطلقات النظرية لريغان وتاتشر كانت سليمة كل السلامة، ولكن كما غاب واقع الحال عن ماركس، غاب أيضا عن ريغان وتاتشر، رأسمالية طليقة.. نهم إلى الأرباح.. وإذا كانت رأسمالية ماركس تسعى إلى الربح من خلال الإنتاج الفعلي، فإن رأسمالية ريغان وتاتشر كانت تبتز الأرباح لا من خلال الأرباح، ولكن من خلال مديونية دون حدود، وهنا تكمن أزمة الرأسمالية المعاصرة. كانت الرأسمالية الكلاسيكية تنتج سلعا، وتبيع بنقود حقيقية، أما رأسمالية اليوم، فهي تبيع على أمل الدفع، وهنا تكمن أزمتها، فالأمل كخط قد يتحقق وقد لا يتحقق، وغالب الأحيان هو كالأفق، كلما اقتربت منه ابتعد.

ماركس كان مخطئا في مستقبل الرأسمالية، فلم يكن روزفلت أو كينز أو الرأسمالية الائتمانية في حسابه. لقد ساهم ماركس نفسه في نجاح الرأسمالية حين حذر من خطرها على نفسها، فتُجنبت الأخطاء التي حذر منها ماركس، وازدهرت الرأسمالية بالتالي. صدرت قوانين تلغي الاحتكار، وهو الذي يؤدي إلى الأزمة الاقتصادية الكبرى. وسُمح لنقابات العمال بالعمل بحرية، سواء في حق الإضراب، أو في التفاوض مع أرباب العمل، وهو أمر لم يتوقعه كارل ماركس في حينه. واليوم يمر العالم بأزمة تفوق أزمة 1929، فمن هو المنتصر: ماركس أم سميث، روزفلت أم ريغان؟ الحقيقة أقول، كلاهما خاسر، وهذه هي الأسباب.. ويتواصل الحديث.