الظرفاء والبخلاء

TT

من نتائج الفقر وشيوع القحط والجوع انتشار ظاهرة البخل في بعض المجتمعات. وهو أمر طبيعي ومفهوم. الجوع مر. وترتبت على ذلك طرائف وحكايات ظريفة كثيرة. ولكن المجتمعات المدنية لجأت إلى إلصاق تهمة البخل ببعض الأقليات أو بعض المدن. فمن الظواهر السايكولوجية ظاهرة الإسقاط projection وهي أن تسقط ما في نفسك من عيب على الآخرين. الأغلبية تلصق عيوبها بالأقلية. فالعراقيون مثلا اعتادوا على لصق البخل بالمصالوة (سكان الموصل) واعتاد المصريون على لصقها بالرشايدة (سكان بلد الرشيد). وفي العهد العباسي لصقها الناس بسكان خراسان. الإنجليز يلصقون البخل بسكان اسكوتلندا. يقولون إنك عندما تزور بيتا إنجليزيا تفتح لك صاحبة البيت قنينة الشراب، وعندما تذهب لزيارة عائلة اسكوتلندية تفتح لك صاحبة البيت التلفزيون! وكل ذلك رغم أنني وجدت من تجاربي الخاصة أن الاسكوتلنديات أكثر كرما من الإنجليزيات.

تعرضت مدينة الموصل لمجاعات قاتلة في السنين الخوالي. روت لي جدتي ـ رحمها الله ـ أن أهل الموصل اضطروا في إحدى هذه المجاعات إلى أكل الكلاب والقطط. وهو بدون شك أقل قسوة وبشاعة مما فعله المصريون عندما اضطروا إلى أكل أولادهم في إحدى المجاعات، حسب رواية أبي حيان التوحيدي. وكانت على أي حال وسيلة كفيلة بالسيطرة على النسل، ربما تفوق الوسيلة المتبناة حاليا بالاعتماد على العازل وحبوب المنع.

بنتيجة ذلك، تمكن المصالوة من تطوير وسائل خزن الأغذية كالاعتماد على النقانق (الباسطرمة) وكبة البرغل التي ابتدعتها جيوش الآشوريين في فتوحاتهم العسكرية، وعلموا أهل الموصل عليها بعد أن نقلوا الجوع لعموم بلاد الشام ومصر.

النتيجة الأخرى هي البخل. زرتها في الخمسينات والتقيت بصديقي بطل الكرة صالح حميد. وقبل أن يسأل عن صحتي أو مهمتي، سألني: «متى ترجع لأهلك؟» ضحكت وقد تجسمت أمامي النكتة العراقية عن بخل المصالوة وضيافتهم. يسألون القادم دائما وأولا «اش وقت ترجع لأهلك؟».

حكايات وحكايات عن بخل الموصل وحرص سكانها. بيد أن أظرفها ما سمعته عن الرجل الذي نزل ضيفا عند عائلة موصلية. بعث المضيف بابنه ليشتري لحما للعشاء. «قل للجزار عندنا ضيف. أعطينا أحسن لحم عندك». ذهب الولد إلى القصاب وقال له ذلك. أجابه القصاب. «ابني أنا أعطيك قطعة لحم مثل الزبد». انصرف الولد عنه وهو يقول لنفسه، إذا كان الأمر كذلك فلأذهب لبائع الزبد. أجابه هذا قائلا: «ابني أنا أعطيك زبد مثل زيت الزيتون». انصرف عنه الولد وهو يقول لنفسه: «إذا كان الأمر كذلك فلأذهب وأشتري شيشة زيت». قال له بائع الزيت: «ابني أنا أبيعك زيت صافي مثل ماء الناقوط من الحب (الزير)». انصرف عنه وهو يقول لنفسه: إذا كان الأمر كذلك فلماذا أشتري؟ عندنا ماء ناقوط بالبيت. عاد وروى ذلك لوالده. أجابه الوالد: «ابني انت شاطر وعملت مليح. لكن فاتك شي واحد. استهلكت قندرتك بالمشي من دكان لدكان في السوق». أجابه الولد: «لا يابا، أنا لبست قندرة الضيف!»

www.kishtainiat.blogspot.com