ليتحد العرب من أجل أن يتحد الفلسطينيون

TT

الأرجح.. أن مفاوضات الوحدة الوطنية الفلسطينية التي رعتها مصر، قد فشلت. وهناك الآن نظريات عديدة في تفسير أسباب هذا الفشل. البعض يحمل المسؤولية لحركة حماس، والبعض يحمل المسؤولية لحركة فتح، والبعض يتحدث جازما عن الدور الإيراني، ولكن لا أحد يتحدث عن الدور العربي في تفشيل هذا الحوار. والدور العربي الذي نعنيه ليس تآمرا يتولى التخطيط لتفشيل الحوار، بل هو أخطر من ذلك، وناتج عن وجود خلاف عربي كبير حول كيفية التعامل مع المشكلات التي تهدد المنطقة.

إن القرار السياسي الفلسطيني الذي بدأ مع العام 1964، عام تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية، كان دائما قرارا متناغما مع القرار السياسي العربي. يبرز القرار السياسي الفلسطيني حين يطلبه العرب، وتتم صياغة القرار السياسي الفلسطيني حسب المواصفات التي يطلبها العرب. ويسهل هذه العملية الفلسطينية، أن العرب، وبمختلف اتجاهاتهم السياسية، كانوا مجمعين على معالجة الموضوع الفلسطيني بطريقة تستطيع أن تضمن الإجماع حولها إلا ما ندر. نقول ذلك من دون أن ننسى أن مراحل مرت، شهدت خلافا عربيا ـ فلسطينيا حول القرار السياسي، وأدت إلى مواجهات وملاحقات، وحتى أوامر بالاعتقال والسجن. ومن المفيد هنا أن نستذكر شيئا من التاريخ القريب، لكي نفهم طبيعة الأزمة القائمة بين الفلسطينيين، والتي تمنع نجاح الحوار الدائر فيما بينهم.

في العام 1974، أقدمت إسرائيل على تحويل (مياه نهر الأردن) نحو بحيرة طبريا. وأثار هذا العمل في حينه ضجة عربية كبيرة، واستدعى انعقاد قمة عربية. وقد انعقدت القمة واتخذت قرارا بالرد يقوم على العناصر التالية:

أولا: إنجاز مشروع مائي عربي مضاد يقوم على (تحويل روافد نهر الأردن).

ثانيا: حشد قوة عسكرية عربية موحدة، لحماية المشروع العربي من أي هجوم إسرائيلي.

ثالثا: تعيين الفريق علي علي عامر قائدا عاما للقوات العربية الموحدة.

رابعا: الطلب من أحمد الشقيري ممثل فلسطين في الجامعة العربية، البحث في تشكيل قيادة سياسية للفلسطينيين.

وكانت قد تشكلت في ذلك الحين سرا حركة فتح، وأعلنت عن نفسها في مطلع العام 1965، وبدأت، خلافا للخطة العربية، بممارسة عمليات فدائية عبر الحدود العربية. وردا على هذه العمليات، أصدر الفريق علي علي عامر أمرا إلى الحكومات العربية المعنية، باعتقال كل من يتسلل عبر الحدود لتنفيذ عمليات عسكرية ضد إسرائيل. وقد تم تنفيذ هذه الأوامر في الأردن، فاعتقلت مجموعات فدائية كانت في طريقها إلى فلسطين. وتم تنفيذها في لبنان، فاعتقلت مجموعة فدائية كان من بينها ياسر عرفات نفسه.

وفي 5 حزيران/ يونيو 1967 وقعت الهزيمة العربية المريعة، وبدأت بعد قمة عربية في الخرطوم، عملية إعادة بناء الجيوش العربية، وتغير الموقف العربي الرسمي من موقف معترض على عمليات فدائية عبر الحدود، إلى موقف مطالب بها من أجل توفير حالة إشغال للجيش الإسرائيلي، تساعد في تمكين الجيوش العربية من إعادة بناء نفسها. وهنا رفع عبد الناصر شعاره القائل بأن المقاومة الفلسطينية هي أنبل ظاهرة أفرزتها المرحلة.

وحين وقعت حرب رمضان 1973، وحقق فيها العرب انتصارا استراتيجيا على الجيش الإسرائيلي، ارتأى العرب أن هذا النصر كفيل بأن يحقق لهم بعض الإنجازات، إذ يمكن على ضوئه استعادة الأرض التي احتلت في الحرب السابقة (سيناء والجولان)، ولكن السير نحو هذا الهدف كان يستدعي اعتماد أسلوب المفاوضات، وعدم إبراز شعار تحرير فلسطين. في تلك اللحظة التاريخية، كانت منظمة التحرير الفلسطينية ترفع شعار تحرير فلسطين، وترفض منطق المفاوضات. ولكنها تفهمت أن الإنجاز العربي يحتاج إلى دعم ومساندة، فأقدمت على صياغة برنامج النقاط العشر في العام 1974، وهو برنامج يعتمد على مبدأين: مبدأ إقامة دولة فلسطينية «فوق كل أرض يتم تحريرها». ومبدأ إجراء الاتصالات (أي التفاوض) اللازمة لخدمة هذا الهدف. وانسجم بذلك الموقف الفلسطيني مع الموقف العربي. ورغم ذلك لم يخل الأمر من خلاف حاد، إذ كانت مصر تريد آنذاك تضمين القرار الفلسطيني اعترافا بقرار مجلس الأمن رقم 242، ولكن التوافق الفلسطيني لم يستطع تلبية هذا الطلب، رغم الضغط الشديد الذي مارسته مصر على المجلس الوطني الفلسطيني في لحظة التصويت.. وجنت منظمة التحرير بعد هذا التوافق، وبسبب نتائج حرب 1973، عضوية المراقب في الأمم المتحدة، التي كان يرأسها آنذاك الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة.

وبعد حرب الكويت عام 1991، وانهيار الاتحاد السوفياتي، وإقدام الولايات المتحدة الأميركية برئاسة جورج بوش (الأب) على إعلان النظام العالمي الجديد، تم الإعلان أيضا عن ضرورة حل الخلافات العالمية بالحوار بعيدا عن العنف. وفي ظل هذا الوضع الجديد وضغطه، تمت الدعوة إلى مؤتمر مدريد للسلام، وذهبت إليه منظمة التحرير الفلسطينية بوفد هو (جزء) من الوفد الأردني، وبأعضاء وفد من (سكان المناطق) ليس بينهم فلسطيني لاجئ، أو فلسطيني من سكان القدس، وذلك بناء على رغبة عربية شاملة للسير في هذا الطريق.

وما ذكرناه هنا هو مجرد عناوين لأحداث عربية ـ فلسطينية. أحداث عربية كانت تتطلب انسجاما عربيا معها. بعض هذه الأحداث العربية كان يمثل حالة نصر أو حالة اندفاع، فيأتي الانسجام معها تعبيرا عن تلاق إيجابي. وبعضها كان يمثل حالة تراجع عسكري أو سياسي، فيأتي الانسجام معها تعبيرا عن تلاق سلبي. وفي الحالتين كان الوضع العربي يقرر بنسبة لا يستهان بها، طبيعة ونوعية القرار الفلسطيني، فهو يندفع مع القرار العربي، وهو يتراجع مع تراجعه.

فهناك خلاف فلسطيني وخلاف عربي حول التسوية السياسية، بين فريق يقول إن فكرة التسوية قد استوعبت نفسها، وثبت بالتجربة أن لا جدوى منها، لأن إسرائيل لا تريدها إلا بما يضمن سيطرتها وهيمنتها، وفريق آخر يرى إن المقاومة هي، بسبب التجربة، الطريق الإجباري الوحيد أمام الصراع العربي ـ الإسرائيلي.

وهناك خلاف فلسطيني وخلاف عربي ينبع من الخلاف السابق، بين فريق يدعو إلى «وقفة» سياسية ضد السياسة الأميركية وضد السياسة الأوروبية التي لا تهتم إلا بدعم إسرائيل ومطالبها، وهو ما أصبح يطلق عليه (شروط الرباعية)، وفريق آخر يدعو إلى الامتثال لطلبات القوى الدولية وشروط اللجنة الرباعية.

وهناك خلاف فلسطيني وخلاف عربي ثالث، يتعلق بعلاقات العرب مع محيطهم الإقليمي، والمتمثل أساسا بالعلاقات مع إيران وتركيا، بين فريق يدعو إلى اتباع سياسة تؤدي إلى قيام تعاون وتنسيق بين دول الإقليم، وسياسة أخرى ترى أن العداء أمر محتم، ولا يمكن إيجاد حلول سياسية له.

هذه الخلافات الثلاث التي ذكرناها، وهناك خلافات أخرى سواها، تقسم الدول العربية إلى فريقين، كما تقسم الفلسطينيين إلى فريقين. وقد اجتمع العرب في قمة الدوحة ولم يتفقوا على سياسة موحدة، واجتمع الفلسطينيون في حوار القاهرة ولم يتفقوا. وسيبقى هذا الخلاف قائما، عربيا وفلسطينيا، إلى أن يتم الاتفاق على استراتيجية عربية موحدة لم يتح لها أن ترى النور في قمة الدوحة. وعندما يتم التوافق على هذه الاستراتيجية ستنسجم معها الحالة الفلسطينية بالضرورة، انطلاقا من أن أي استراتيجية عربية هي بالضرورة تعبير عن القضايا الوطنية العربية جميعها، ولا يمكن أن تكون تعبيرا عن الرضوخ لأوامر الآخرين أيا كانوا، وسواء كانت شروطهم رباعية أو خماسية أو سداسية.

فليتحد العرب من أجل أن يتحد الفلسطينيون، ومن أجل أن نتخلص من فزاعة إيران التي بدأنا نلقي عليها كل خيباتنا.