الإصلاح بين الرفض والأمل

TT

تعد مقاومة التغيير من أكثر المشكلات التي تواجه السياسي الطموح تعقيدا، خاصة في المجتمعات النامية، حيث جبل الناس فيها على الخوف من المجهول، والتمسك بما عرفوه وألفوه وما اعتادوا أن يجدوا فيه ذاتهم.

وللتغيير ديناميكية يصعب التحكم فيها في المجتمع، أو التنبؤ بمدتها الزمنية، ذلك أن المجتمع النامي، يبقى عشرات السنين، في حال من عدم التجانس، قبل أن يصل إلى المأمول من التطوير والإصلاح. ولا شك أن تغيير الشكل الثقافي الملموس، مثل الحصول على الشهادات العليا، أو بناء المطارات، وسفلتة الطرق واستخدام الحاسب، أسهل بكثير من تغيير طرائق التفكير، أو التركيبة العقلية أو المعرفية لدى الإنسان، التي تنتج الرؤية وتترجم النظريات إلى سلوكيات، فمن السهل أن يشتري الإنسان سيارة حديثة، ويتعلم قيادتها. إنما تكمن الصعوبة في احترام أنظمة المرور، والالتزام بآداب الطريق في مدينة واسعة ومكتظة بحركة لا تتوقف، هذه الأخيرة تتطلب درجة عالية من ضبط النفس ومن الوعي الحضاري والتفكير، بعيدا عن معطن الفوضوية، كذلك تكون صناعة السلوك الثقافي الحضاري.

فبإمكان القيادات الإدارية في الدول النامية، بناء مبان جديدة بمواصفات هندسية حديثة، وتوفير تقنيات ووسائل اتصال إلكترونية متكاملة، وإجراء التغييرات الشكلية في المؤسسة، وبإمكانها أيضا وبدرجة أصعب قليلا، أن تحدث تعديلات في الأنظمة، واللوائح والإجراءات، تواكب التطوير المنشود. ويبقى الجانب الأصعب في هذه العملية، هو قدرة هذه القيادات على تغيير الاتجاهات، والقناعات الفكرية المعيقة للإصلاح.

وقد تعود الأسباب المعيقة إلى عامل اقتصادي، كندرة الموارد، أو الرغبة في الاستئثار بأكبر قدر منها من قبل البعض، فتساير الموجة المؤيدة لا لقناعاتها بالإصلاح والتغيير، وإنما لتحقيق مكاسب ذاتية مؤقتة مقرونة بالمصلحة الشخصية، وقد يعود السبب إلى عامل نفسي، اجتماعي، سياسي أو إداري، يوظف لحشد الرفض المستتر، لمسيرة التغيير والإصلاح، من خلال الصدام لا التعاون، فتـغرق القيادات الإدارية والمؤسسات، باسم الإصلاح والتغيير، في بحر من الصراعات والثارات المعيقة. وقد يعود إلى عامل فكري، كون الأغلبية في الدول النامية غير مقتنعة بضرورة التغيير أو جدواه، أو أنها لا تتصور بعض المفاهيم على نحو صحيح كمفهوم «المصلحة العامة»، «والولاء للدولة»، بل إن مفهوم «الدولة» في حد ذاته لم يصل بعد إلى عمقهم الفكري والاجتماعي بالدرجة الكافية لإزاحة الانتماءات العرقية أو الطائفية أو الإقليمية من وجدانهم لصالح الدولة، وقد تكون هناك أسباب أخرى غير هذه الأسباب، صنعت الانفصام الثقافي بين الشكل والمضمون، وبين الفكر والسلوك.

وإذا أدركت القيادة السياسية، تلك الصعوبات لإحداث التغييرات السلوكية الثقافية المطلوبة للعملية الإصلاحية، آثرت الاكتفاء بإحداث التطوير في الجانب الأسهل، على أمل أن تهيئ الظروف ولو علي المدى البعيد لحدوث تغيير في طرائق التفكير والسلوك الحضاري، جراء انفتاح الثقافة المحلية على الثقافات الأخرى، وتأثير وسائل الإعلام والاتصال الحديثة، إلا أن ذلك لا يعفي حكومات الدول النامية من مضاعفة جهود مؤسسات الدولة المختلفة، خاصة الدينية والتعليمية والإعلامية، وكذلك مؤسسات المجتمع المدني لتغيير المفاهيم، وإعادة تشكيل الوعي بثقافة الإصلاح والتغيير، وقيمة المصلحة العامة، ومفهوم الدولة، في وجدان القيادات الإدارية والمواطنين، لتصبح هذه الجهود، «عوامل محفزة» تساعد على تفاعل متغيرات الثقافة الملموسة وغير الملموسة، لدفع عجلة الإصلاح بعيدا عن الرفض وتحقيقا للأمل.