العراق.. باريس الأفضل ولكن!

TT

كنا نؤول الموقف الفرنسي، عهد الرئيس شيراك، من إطباق الحصار على العراق، ثم حرب السقوط، بصداقة بين شيراك ورأس النظام، ومن مظاهرها في أواسط السبعينيات، من القرن الماضي، الدعم المالي لليمين الفرنسي ضد اليسار. وحسبنا وليمة السمك المسگوف، التي أُقيمت بفرنسا، ونُقل إليها مئة من الشوائين البغاددة، طعام عِماد تلك الصداقة.

كنت كتبت مقالا تحت عنوان: «أما سمعتَ يا شيراك شكوانا» (إيلاف 13 آب 2004)! عندما بكت باريس صحفييها المختطفين، وعندما سلك الإعلام الفرنسي مسلك الإعلام العدائي، فالصحافية الفرنساوية، المحجبة تقيةً، كانت تُلهب الجموع، في حوادث الفلوجة والنجف! كان عنوان المقال مستلا من بيت لبدوي الجبل (ت 1981)، لما سقطت باريس بيد النازية: «سمعتُ باريس تشكو زهو فاتحها.. أما تذكرتي يا باريسَ شكوانا»! حينها أخبرني المحرر بأن المقال تُرجم إلى الفرنساوية، ونُشر في مجلة، وفُهم منه اتهام الرئيس بإعانة الإرهاب!

إلا أن النظرة تغيرت بعد رؤية ما تركه الحصار من نفوس خاوية، وما سبب من علل وأوبئة على الساحة الثقافية، حتى غدت الثقافة شيئاً ووزارتها شيئاً آخر! بينما من الواجب، أن تحسب من أخطر الوزارات، واستبدلت بالصورة صور! أجد الموقف الفرنسي من الحصار والحرب معاً، أكبر وأعز من وليمة المسگوف، وكانت الشماتة بمحنة باريس في صحفييها ليست في محلها! فلا أدري كم شواءً، من أولئك الشوائين، ذُبح ووضع على أسياخ موقدة؟!

كانت زيارة الرئيس ساركوزي إلى بغداد، ولم يخطئ خطأ وزير خارجيته، عندما نزل بقرية أبو هاون لا ببغداد، وما كتبته ضد تلك الممارسة كان غيرةً لبغداد، لا تعالياً على أهل ودار، مثلما عدها المتحاملون. بغداد، صرة العراق، اختنقت بالجلافة، وما زالت، وسُحقت ببساطيل الدكتاتورية، وقُسمت كرادتها الغربية، وجادريتها إلى حصون منيعة، وشرايينها سُدت بسواتر أسمنتية، لمئة رئيس لا رئيس واحد.

كانت تلك الزيارة تصحيحاً لما رافق الموقف الفرنسي، في فترات حرجة من تاريخ العراق؛ ومعلوم أن باريس تمثل الوسط في علاقاتها، في ظل الحرب الباردة، وهي اليوم أخف وطأةً، في حسابات المصالح وعواقبها، من واشنطن ولندن. كذلك جاءت زيارة نائب الرئيس العراقي إلى باريس، وتعقبها زيارة رئيس الوزراء فواتح خير للبلدين.

كان تصريح نائب الرئيس عادل عبد المهدي، عند بوابة الإليزيه، التعهد بحماية مواطنيه المسيحيين، والطلب من فرنسا المساعدة بالحفاظ على الوجود المسيحي العريق، له مقاربة للتاريخ الفرنسي على ضفتي الرافدين، يوم نزل الآباء الكرمليون الحفاة، تزهداً، البصرة (1623)، ثم ببغداد (1628)، وهم مبعوثو فرنسا الملكية، للتبشير بالكاثوليكية، بين أتباع الكنيسة الشرقية(أبونا، تاريخ الكنيسة الشرقية). كذلك حضرت فرنسا في التنقيب عن الآثار، فأغنت متحفها اللوفر بأصل شريعة حامورابي، وبكم هائل من الآثار، من غير ما غرق من آثار آشورية عظيمة، عند ملتقى الرافدين القُرنة، شحنتها فرقة التنقيب الفرنساوية، من الموصل إلى البصرة، وخاصت في الطين حتى يومنا (فوصيل، الحياة في العراق 1814-1914)!

بفضل فرنسا، كان الأب أنستاس الكرملي (ت1947) أنفس أثر تركه أولئك الكرمليون الحفاة، للعراق، فلم يُقدم لتُراث العراق، مثلما قدمته مجلته «لغة العرب»(1911-1931). وكانت هي ومجلة هبة الدين الشهرستاني (ت1967) «العلم»(صدرت 1910) بالنجف، العلمين اللذين مثلت دراساتهما، ومحمود شكري الآلوسي (ت1924) بواكير تأسيس نهضوي.

ومن الرقي أن فاز كتاب الآلوسي الموسوم بعنوان «بُلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب»(1896) بجائزة مملكة السويد، من «لجنة الألسنة الشرقيةّ» باستقهولم (هكذا أوردها تلميذه بهجت الأثري)! ومَنْ يقف على «أدب الرسائل بين الآلوسي والكرملي»(جمع كوركيس وميخائيل عواد) سيتعلم لغة الإنصاف والاعتراف الثقافي والعلمي، خارج حواجز الانتماء، ومشاعر الأنانية.

على أية حال، من باريس عاد مصطفى جواد (ت1969) بعلم وافر، وعلي جواد الطاهر (ت1996) فحلا في النقد، وحوى إبراهيم السامرائي (ت2001) ما حواه من سربونها، وسواهم نحل الكثيرون ما نحله منها أديب مصر طه حسين (ت1973).

نعم، باريس الأفضل، من بين الاحتكار الغربي الآخر، لكن، مهما كانت مفتوحة للتعاون، في إعادة إعمار، وفي صناعة، وتأهيل مدني، لا تُقدم ذرة إذا لم يحل الواقع العراقي معضلاته، في إدارة تكنوقراط! فالإخوان الصفا (القرن العاشر الميلادي) كلمتهم فاسمعوها، وقد سبقت البصرة باريس وشقيقاتها من الراقيات في قولها: «تدخل الشبهة على كل مَنْ يتعاطى صناعة وليس من أهلها. ومن أجل هذا قيل: استعينوا على كل صنعة بأهلها»(رسالة في الهندسة)! أخجلوا من زمن مضى عليه أحد عشر قرناً. البصرة التي أخذت تستورد تمرها وسمكها.. عجباً!

[email protected]