هوس السلطة

TT

هناك بضعة استخلاصات عن الحالة العراقية التي تفسر ظواهرها استنتجت مبكرا ولم تزدها الأيام إلا يقينية، حيث أثبتها التواتر والتكرار بما جعلها أقرب إلى البديهية أو العرف، إلا أننا ولكوننا درجنا بأن لا نفضل الطريق المستقيم كأقرب بين نقطتين ونفضل الإيغال بمتعرجات الالتواء التي تتيح لنا قدرا من الأغطية وتوفر المثل التي نخفي فيها نوازعنا، ومنها الادعاء بالتسامي عن السلطة والزهد فيها وبأنها لا مقصد ولا غاية، وأن نشدانها والسعي إليها يأتي إما استجابة للتكليف الشرعي أو للتكليف الشعبي بموجب الديمقراطية، أو خليط ما بينهما أي أن إرادة الشعب هنا كاشفة وليست موجدة! فمثلا إن تصدي السياسيين الإسلاميين للعمل يرونه بأنه ما هو إلا استجابة لتكليفهم الشرعي فتأتي إرادة الأمة لتكشف هذا التكليف، ألا يبدو هذا تجليا لنظرية الحق الإلهي ولكن بثوب ديمقراطي، لا علينا فليس هذا تحديدا مورد بحثنا، المهم باتت السلطة مطلوبة أيا كانت النوازع والدوافع، فبعد أن كانت اليد القابضة عليها يدا دكتاتورية فانفرطت، بات الكل يفهم بأنها استحقاقه وبأنه متساوي الحظوظ فيها، لذا لتحقيق الرضا وإشراك العدد الأكبر عليه فيجب أن تتوزع السلطة أشد ما يكون التوزع بغض النظر عن ما إذا كان هذا التوزع يعيق ويطيح بالفاعلية.

آخر مظهر يثبت فكرة أن كل ما يجري في العراق منذ سقوط النظام السابق وإلى الآن ما هو إلا صراع سلطة، هو ما يجري منذ أسابيع وعقب انتخابات مجالس المحافظات ومشهد الاصطراع الدائر على اختيار المحافظين، ولشغل المناصب السيادية، لاحظ النزوع الجامح إلى السلطة الذي يدل عليه ما تختزنه التسميات، مجالس محافظات تتعامل بالشأن اليومي والخدمي سيشكرها المواطن لو خلصته من القمامة تسمي مناصبها سيادية، فما الذي يبقى للدولة قرينة السيادة، وهل السيادة قبلت يوما التجزئة والتبضيع، المفارقة الثانية اللافتة، أنهم من بين كل الأسماء التي عرفت وتتداول في العالم لتسمية وتوصيف الإدارات المحلية يصرون ويتمسكون بتسميتها بالحكومات المحلية، عازفين عن رؤية أن اسطنبول وطهران اللتين عدد سكانهما يساوي تقريبا كل سكان العراق تسميان بلدية اسطنبول وبلدية طهران، ولم تسميا حكومة اسطنبول المحلية أو حكومة طهران المحلية، ناهيك عن أن قيادات بلديهما، أردوغان ونجاد، صعدا بمنصة الخدمة البلدية. مجالس المحافظات هذه بعد انتخابها أمضت أيامها واجتماعاتها الأولى وهي تتصارع على توزيع المناصب، يوميا تتكون ائتلافات وتتفكك أخرى، هاجسها وهدفها اقتسام المواقع، في حين يفترض أنها عندما دخلت في ائتلافات كانت على برامج تعد بتطبيقها، لا أن تنفرط وتتشكل وفقا للمصالح والمساومات، مجلس محافظة عقد ثماني جلسات وفشل للآن في الاتفاق على محافظ، آخر تشابك أعضاؤه بالأيدي على المناصب، ثالث اتهمت فيه القائمة الرئيسية الفائزة بالاستئثار فتمردت بعض أقضيتها وتهدد بفك ارتباطها من مركز محافظتها والالتحاق بالمحافظات المماثلة لها قوميا.

حدة وضراوة الصراعات على المناصب تشي بعدم إدراك الدرس الذي أرسله الناخبون المستاءون عندما صوتوا مطيحين بالإدارات المحلية السابقة محتجين على ضعف أدائها وفشلها في توفير الخدمات وانشغالها بالمكاسب واتساع دائرة الفساد بينها وتغليبها للمصالح الحزبية الضيقة واعتبارها الوظائف فرصة ليس للخدمة العامة بل لتحسين الحال وضمان المستقبل الشخصي، فالصراعات بين الفائزين ترسل جرعة يأس وإحباط إلى المواطنين، وبأن الآمال سرعان ما تتبدد وهم يرون بأن التصارع ليس على برامج أو على السبل الأفضل لتحسين الأوضاع الأمنية والمعاشية للمواطن الذي مل الصبر، بل هدفها السلطة والنفوذ وامتيازات شرعية وأخرى غير ذلك.

من جهة أخرى فإنه بدل أن تكون القيادات الحزبية والسياسية المحلية محكومة ومنضبطة بتحالفات قيادتها المركزية نجد العكس؛ إذ إن التحالفات المحلية بدت أحيانا تسير بشكل متناقض مع توجهات قياداتها في بغداد، بل إن هذه التحالفات كانت من السيولة بمكان بحيث تتغير وفقا لاصطفاف الأصوات ومساوماتها على المناصب فلا تكاد تجد أي مشتركات واضحة بين القوى المؤتلفة، التي تتغير من محافظة إلى أخرى، بل لوحظ التمرد على الاتفاقات المركزية بما انعكس بأجواء من التوتر على العلاقات بين القوى وبما أضعف عامل الثقة بينها، وبدل أن تكون الانتخابات المحلية، كما هي في كل العالم، جسرا يوظف للانتخابات العامة فيبدو هنا بأنها ستكون عامل شد للوراء وإفشال للقوى الفائزة، فرغم الوعود السابقة بمنح مناصب المحافظين إلى المستقلين الأكفاء، إلا أن هذا لم يتحقق كون اعتبر كل شخص فائز في مجلس المحافظة نفسه مشروع محافظ، ولم يترك للمستقلين أي فضاء، مغفلين إرادة الناخب الذي صوت احتجاجيا على الأحزاب واستئثارها، في حين أن الحصافة كانت تقتضي ونحن لا تفصلنا إلا بضعة أشهر عن الانتخابات العامة أن لا تتم إدارة الظهر لميول الناخب وأن لا تحتكر الأحزاب المناصب لأعضائها مغامرة في حالة فشلهم، وهو الراجح، بأن تحمل أوزارهم وتعاقب في الانتخابات العامة القادمة التي تظل هي بلا شك الأهم لكونها تقود مفاصل أي بلد وسياسته.

فضلا عن أن غالب القيادات المحلية التي انتخبت والتي تتنافس على مناصب تقوض استراتيجية قياداتها وتتمرد عليها، رغم أنها لم تفز لجاذبيتها للناخب، بل يكاد الناخب لا يعرفها، إذ هو صوت لقيادات وطنية استظلت القوائم بها، إلا أن هذا النزوع وإن بدا غريبا، فإنه لا يجد تفسيره إلا في ظاهرة الهوس بالسلطة.