صحافة «عزبة شلبي»

TT

كتب داوود الشريان مقالين في جريدة «الحياة» في 28 و29 أبريل 2009، كانا أشبه برثاء للإعلام المصري. وداوود الشريان معروف بغيرته على مصر وحبه لأهلها، لذا توجه برسائله إلى عميد الصحافة المصرية الراحل مصطفى أمين. وبالفعل هناك مسافة شاسعة بين مصطفى أمين ومصطفى «معرفش مين»، وفي تلك المسافة الشاسعة مؤشر انحطاط لا يمكن تجاهله. يعز علي كمصري أن أعترف بهذا الواقع، لكن الاعتراف بأن هناك مرضا هو بداية العلاج. المشكلة هي ليست طبعا فيما تبقى من صحافة راقية في مصر، وهناك، للأمانة، جزر معقولة تنتمي إلى هذا الجنس من الصحافة، لكن مشكلة صحافة مصر اليوم وإعلامها هو ما يمكن تسميته بإعلام «عزبة شلبي».

«عزبة شلبي»، لمن لا يعرف، هي منطقة عشوائية في مدينة القاهرة ناحية المطرية، يعيش فيها الناس تحت أكوام من قطع غيار السيارات المختلفة. عندما تذهب إلى عزبة شلبي تجد نفسك في عالم غير العالم.. هناك «تضرب» شاسيهات السيارات المهربة والتربتيك لكي تدخل مصر من دون أن يدفع عليها رسوم جمارك. في عزبة شلبي تشوه السيارات تماما، بمعنى أن يفك الصنايعية السيارات ويخلقوا منها سيارات أخرى. الصاج هوندا، والموتور مرسيدس، وعجلة القيادة من سوزوكي.. سيارة تجميع لا يمكن لأي جهاز مرور في العالم أن يعرف أصلها من فصلها. تشتري السيارة من عزبة شلبي «برخص التراب» ثم تذهب لترخيصها فتكتشف أن الموتور من مكان والشاسيه مضروب، ولكن ترخص في النهاية بعد حيرة طويلة. وقد اشتكى أخيرا وزير المالية يوسف بطرس غالي من أن هناك عشرين ألف سيارة تسير في شوارع وطرقات مصر، وكلها تجميع «عزبة شلبي».

الإعلام المصري اليوم أشبه بعزبة شلبي، ناس تعد برامج من أنقاض «توك شو» أمريكاني، وصحفي يقولون عنه إنه كبير يجمع مقالاته تجميعا من «هآرتز» الإسرائيلية و«الليموند» الفرنسية، ويضربهما في عزبة شلبي، فيخرج منهما مقال إسلامي «زي الفل». واحد تاني صحفي «مقاول» يقدم نفسه على أنه صحفي «مقاوم»، يعلن لشركة العال الإسرائيلية (قمة التطبيع) في طبعته الدولية، ويبيع للمصريين خطاب المقاومة في الداخل. بالطبع نحن لا نتحدث عن كل صحافة مصر، ففي مصر كثير من الصحافيين الجادين والصحف الجادة التي تستحق كل الاحترام والتشجيع. لكن هناك عشوائيات أو مستوطنات في الصحافة المصرية سيطرت عليها دول وحركات خارج حدود مصر مثل إيران و«حزب الله»، أشبه بعزبة شلبي في تجميع السيارات المضروبة والمعلومات المضروبة. هؤلاء، برأيي، يجب ألا ينتموا إلى نقابة الصحافيين التي يرأسها الصديق مكرم محمد أحمد، وإنما انتماؤهم المهني والأخلاقي يجب أن يكون إلى نقابة صحافة المدن الصناعية ونقيبها قد يكون «مصطفى أنبوبة» أو «الواد بليه العجلاتي».

داوود الشريان في مقاليه، يتحسر ويستنهض في المصريين تاريخهم الصحافي الراقي مناديا مصطفي أمين «يا أمير الجملة الصحافية، القصة ليست مزحة. الإعلام المصري، اليوم، لم يعد كما تركته يا مصطفى الصحافة العربية. ذهب أهل الدثور بالأخبار وسطوة الكلمة والتأثير. أصبح الناس للبيع على قنوات التلفزيون وأعمدة الصحف. غاب الإعلام المصري عن الساحة التي تركتها مشتعلة بحسك، وبقية جيلك المتميز. حتى صاحبك وصديقك محمد حسنين هيكل صار شاهدا على عصر هذا الضعف».

نعم أخي داوود: من مصطفى أمين إلى مصطفى «معرفش مين»، أروح لمين ينقذني منك، تنويعة على أغنية الست.

يقول الشريان: «هو فيه إيه، إيه اللي بيحصل ده؟». اللي بيحصل ده يا باشا هو ان الإعلام المصري تراجع، أو غاب. أزعجتك هذه العبارة. أعرف. لكنه غاب. الشكوى لله. انصرف عن المسرح، على طريقة هيكل، وجلس في الصف الأخير مع المتفرجين. ولو قدر لك أن تزور القاهرة اليوم ستجد أن عدد الصحف الصادرة يفوق الكتب القديمة المعروضة على سور الأزبكية أيام زمان. مصر تعيش طفرة في «الروبابكيا» الصحفية يا مولانا. لكن لا تأثير لها، ولا انتشار. ناهيك أن بعضها يكتب بلغة لا تليق باللغة. أما القنوات الفضائية فعدّد ولا حرج. حتى كتاب الفيزياء في الثانوية العامة صار له قناة فضائية مصرية».

الشريان، وبكل أسف، محق فيما يقول. فقد كشفت أزمة مصر الأخيرة مع «حزب الله»، أن الإعلام المصري لم يعد بذات التأثير، لدرجة أن زعيم «حزب الله» حسن نصر الله نفسه استخف به وقال إن الحملة المصرية على «حزب الله» فشلت في تحقيق أهدافها، ثم تلاها بشكر لمؤيدي حزب الله من الصحافيين المصريين من «عزبة شلبي». هذا أمر لا يمكن قبوله في حق صحافة عريقة، لكن ماذا نقول وقد اتسعت مساحة صحافة «عزبة شلبي» لتغطي على صحافة مصطفى أمين.

من مصطفى أمين لمصطفى «معرفش مين»، هذه هي صحافة الحضيض والصلب.

الشريان كاتب عمود متميز ويغار على مصر، ولكن يبدو أن الكيل قد فاض به. وهذا مؤشر آخر ينضم إلى مجموعة كبيرة من المؤشرات والدلائل، لا بد وأن يحث المصريين على إعادة النظر وبسرعة فيما يخص منظومتهم الإعلامية. ليس لدي شك في أن مصر مليئة بالمواهب من جيل الشباب ممن حصلوا على تعليم أفضل، ولكن هؤلاء لا يجدون لهم مكانا في جو سيطر فيه «بلطجية عزبة شلبي» وأصحاب المستوطنات الإيرانية في الصحافة المصرية ممن يخوفون ويرهبون ويخونون، ويصورون أنفسهم على أنهم الماسكون بختم الوطنية يمنحونها لمن يريدون ويسحبونها ممن يريدون.

كتبت في مصر عن التغلغل الإيراني وعن المال الطاهر (القادم من طهران)، فقامت علي صحف «عزبة شلبي» ومستوطناتها التي لا تقبل أي نقد لإيران أو حلفائها، وتقوم كل يوم بحملة تشكيك ضد كل من يتلفظون ولو بكلمة واحدة ضد الدولة الفارسية.

لطهران اليوم مستوطنات في مصر ليس في الصحافة فقط، وإنما داخل مجلس الشعب. اصحاب كوبونات صدام يقومون بالدور نفسه لصالح طهران. صحافة «عزبة شلبي» التي تعمل لصالح إيران غدت أصواتها زاعقة حتى طغت على صوت الصحافة المصرية العريقة، هي الجناح الإعلامي الصارخ لـ «اللوبي الإيراني» في مصر، والذي استفحل لدرجة لا بد معها من أن تقرع كل أجراس الخطر.

تحاول محافظة القاهرة أن تزيل العشوائيات السكنية كي تعود القاهرة حاضرة شرقية كما كانت في السابق، ولكن لا يمكن أن نزيل العشوائيات السكنية دون مساس بسوفت وير العشوائية المعشش في الرؤوس. العشوائية حالة ثقافية قبل أن تكون حالة سكنية أو مشكلة تنظيم مدن. لنبدأ بإزالة عزبة شلبي الثقافية أولا، ثم نتجه بعدها لتجميل المدينة. هذا ما ينشده من يحبون مصر بإخلاص، لا متاجرة.