الوفاء.. للنظام الأمني!

TT

«غريب حرص إسرائيل على اغتيال الساسة اللبنانيين المناوئين لسورية»

(كارلوس إده عميد حزب

«الكتلة الوطنية» اللبناني)

إيجابيات عديدة حملها الإفراج عن الضباط الأربعة الذين أوقفوا في قضية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري ورفاقه.

إيجابيات يجب أن يقرّ بها معظم أطراف النزاع اللبناني، ولا أقول كلّهم، لأن إجماع اللبنانيين «كالغول والعنقاء والخل الوفي».. من المستحيلات.

على رأس هذه الإيجابيات الإفراج عن أشخاص، مهما كان الرأي الشخصي أو السياسي فيهم وبارتباطاتهم وتاريخهم، لأن القضاء الدولي ـ المفترض أنه مستقل ـ قرّر أن ليس لديه من الأدلة ما يكفي لمواصلة احتجازهم. وهكذا، على أي إنسان عاقل ومنصف أن يرتاح لهذا الجانب. فالمسألة ليست مسألة انتقام من نهج سياسي أو ثأر ضد ممارسات عدائية بالمطلق، بقدر ما أن هناك تهمة وجهت بشكل ما وبمضمون ما، فإن لم يتوافر الدليل، تقضِ العدالة تقنيا، وفي هذه اللحظة الزمنية على الأقل، وضمن المعطيات والأدلة الموجودة.. رفع الشبهة عنهم.

ومن الإيجابيات كذلك، أنه تأكدت مهنية القضاء الدولي ونزاهته بالرغم من الحكم المُسبق الذي كانت أصدرته جهات محلية لبنانية، وإقليمية عربية وغير عربية، تحتضنها وتسيّرها وترعاها، ضد المحكمة الدولية. وتحت ذريعة أن المحكمة «مسيّسة» استباحت هذه الجهات لنفسها كل شيء.. من شلّ الحكومة إلى خلق مناخ من التوتر والفتنة في البلاد، إلى احتلال الساحات العامة والشوارع ومحاصرة مقر الحكومة بقوة السلاح والتهديد بالعصيان المدني المدعوم ميليشياوياً، المفضي لانفراط عقد الدولة ومؤسّساتها.

وأيضا من الإيجابيات المهمة، التصريحات العلنية لبعض الضباط الأربعة المفرج عنهم والاحتضان الرسمي والسياسي والشعبي لـ«حزب الله»، مما كشف تماما عمق العلاقة الاستراتيجية بين «النظام الأمني» الذي كان بعض هؤلاء الضباط تجسيدا له و«حزب الله» كحزب نما وكبر في ظل هذا النظام... حتى صار أكبر من الدولة وأغنى وأقوى.

فخلال الأيام الأولى من جريمة اغتيال رفيق الحريري ورفاقه، وقبل أن تجول مقصلة الاغتيالات لتطال عددا من أحرار لبنان.. وبالرغم من مسارعة القسم الأكبر من الرأي العام اللبناني، بما فيه «التيار العوني» بالذات، إلى توجيه أصابع الاتهام لدمشق بـ«هدر دم» الحريري ورفاقه.. انبرى «حزب الله» ليشكر دمشق، ويهدى رئيس جهاز أمنها واستطلاعها العميد رستم غزالي بندقية رشاشة كعربون وفاء للحكم السوري.. على رؤوس الأشهاد وأمام عدسات التلفزيون.

وخلال الأسبوع المنصرم كرّر السيد حسن نصر الله الاحتضان وبرّره. وتجاهل خطابه الشهير عندما أكّد «على مسؤوليته» أن المحكمة مسيّسة سَلفاً وأن الأحكام معدّة، فقال متسائلا ومجيبا على تساؤله: «.. هل أن المحكمة ستستمر في إيقاف أشخاص من دون دلائل والاستماع إلى شهود مشكوك بصدقيتهم؟ وهل ستسمح لمن ضلّل التحقيق بالاستمرار في التدخل في عمل المحكمة؟ معلوماتنا تقول إن هذا الأمر سيستمر، وهناك أشخاص موجودون في لاهاي لهذه الغاية..!».

لا حاجة للتوقف بغرض الاستفسار عن مصدر «معلومات» السيد نصر الله من لاهاي، ولا كيف جرى التسريب المبرمج لقرار الإفراج عن الضباط الأربعة قبل أسابيع من صدوره. لكن كان لافتا تقييم السيد نصر الله للقضاة الذين تعاملوا مع ملف قضية الحريري ورفاقه.

إذ قال إزاء ما وصفه بـ«الفضيحة» التي «تسبّبت بها لجنة التحقيق الدولية. إذن ديتليف ميليس مُدان، وسيرج براميرتس مُدان، وهناك «ثلاثة بلمار» (القاضي دانيال بلمار) الأول الذي شارك الآخرين في الفضيحة، وبلمار الثاني الذي لم يعترض على إطلاق الضباط، وهو مشكور على ذلك، وبلمار الثالث الذي لا نعرفه بعد، وهنا نسأل: هل سيكون كبلمار الأول أو الثاني؟».

هنا القاضي بلمار إما مرشح للبراءة أو معرّض للإدانة في ضوء ما يقرّره مستقبلا. بكلام آخر القاضي هو الشخص الذي صار قيد المحاكمة وليس المشتبه بهم. وهذا فتح جديد في عالم العدالة الدولية.

يبقى نقطتان أعتقد أنه لا بد من التطرّق إليهما بعد كلام السيد نصر الله تعليقا على الإفراج، الأولى هي موضوع تضليل التحقيق، والثانية انتقاده ـ مجدّدا ـ إصرار البعض على اتهام الحكم السوري واستبعاد الدور الإسرائيلي.

بما يخص النقطة الأولى أعتقد أن الجهة التي تضلّل أي تحقيق هي تلك التي تزرع شهود الزور وتدفعهم دفعا للإدلاء بإفادات كاذبة عن عمد بهدف الإرباك ومن ثم التضليل، وليس عائلة فقيد متعطشة لمعرفة الحقيقة ومستعدة لتصديق أي شخص قد يصدقها القول أو يوهمها بأنه يعرف جانبا منها. فآل الحريري، حسب علمي، لم يسحبوا «الشهود» من بيوتهم سحبا، ولم يكلّفوا هسام هسام بحضور تشييع جنازة الشهيد جورج حاوي.. قبل أن ينكر أقواله ويظهر في دمشق متمتعا بالرعاية الرسمية!

أما عن إسرائيل، فمع السيد نصر الله كل الحق بالشك فيها، خاصة أنها عدّو رافض لقيام لبنان سيّد حرّ ديمقراطي مستقل. ولكن ألا يرى السيّد أن العديد من مخطّطات إسرائيل الهادفة إلى نسف الدولة اللبنانية وتفجيرها من الخارج والداخل نفذ ـ وما زال ينفذ ـ بأيدٍ عربية أحيانا ولبنانية أحيانا أخرى؟

نعم، إسرائيل ضد لبنان وضد المقاومة وضد تحرير فلسطين، ولكن ماذا نجد إذا راجعنا شريط الماضي منذ 1975؟ مع مَن تعاونت إسرائيل، بل الأصح، مَن نفذ مخطط إسرائيل في ضرب لبنان ووحدته الداخلية، وتصفية القيادات اللبنانية الداعمة للمقاومة الفلسطينية، وتدمير المقاومة الفلسطينية نفسها؟

إسرائيل، حتما، ولكن بأيدي مَن؟ أليس معيبا أنه بين 1976 و2005 عجز القضاء اللبناني في عهد «النظام الأمني» السوري اللبناني عن كشف «دور إسرائيل» ـ الذي يتكلم عنه السيد نصر الله ـ في اغتيال نخبة من القيادات الوطنية والعروبية والإسلامية اللبنانية؟

نفهم أن بعض الضبّاط الأربعة الذين هاجموا القضاء اللبناني بالأمس كانوا، وما زالوا، أمناء لماضيهم المعروف في الازدراء بالعدالة والاستخفاف بمؤسّساتها.

ونفهم أن «حزب الله» غدا أكبر من الدولة ومؤسساتها، وهو ليس في وارد التراجع عن مشروعه القديم الجديد، الذي ليس بيده القرار الفصل بشأنه، بل هو هناك.. في عاصمة بعيدة.

ولكن المؤسف أن قطاعا لا بأس به من اللبنانيين يبدو وكأنه مستعدّ للرهان على العودة إلى حقبة ما قبل 2005، عن طريق صفقات انتحارية «هجينة»، ستنتهي بلبنان في خانة «الدولة الفاشلة».. وبعض طوائفه ضمن تصنيف الفصائل المهدّدة بالانقراض.